الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والتحقيق أن نفي الإيمان وإثباته باعتبارين :

فمن في قلبه مثقال ذرة من إيمان لم يدخل جميع الإيمان في قلبه ، وإنما دخل في قلبه شيء منه ، فهذا يثاب على أعماله وهو مسلم ومعه إيمان ، ولما يدخل كمال الإيمان في قلبه بل إيمانه ناقص ، ولهذا كان الصحابة وجمهور السلف على أن الإيمان يزيد وينقص .

فالفاسق معه إيمان ناقص نقصا هو نقص جزء واجب ، وما كان كذلك فإنه ينفى ، وإن كان قد أثيب على فعل ما فعل لكن ما تبرأ ذمته ، ولا يعاقب عقوبة من لم يفعل شيئا . كمن ترك بعض واجبات العبادة فيقال : صل فإنك لم تصل ، ولا يكون من ترك الطمأنينة كمن ترك جميع الصلاة ، ولهذا تكمل الفرائض يوم القيامة من النوافل ، والعبد ينصرف من صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها ، [ ص: 244 ] إلا ثلثها ، إلا ربعها ، إلا خمسها ، إلا سدسها ، إلا سبعها ، إلا ثمنها ، إلا تسعها ، إلا عشرها . ورب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ; وليس بمنزلة المفطر ، بل وإن لم يحصل له ثواب فهل يرفع عنه عقاب الترك؟ وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع .

والمقصود هنا بيان كيف ينفى الإيمان بفعل الكبائر . وذلك أن الإيمان الواجب لا بد أن يكون الله ورسوله أحب إلى صاحبه مما سواهما ، ولا بد أن يخشى الله ويخافه ، فمن لا يحب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا يخشى الله تعالى فهذا ليس بمؤمن ، بل قال تعالى : لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه . وقال تعالى : ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون .

فبين سبحانه أنه لا يوجد مؤمن يواد المحاد لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وأن المؤمن لا يمكن أن يتولى الكافر ، والمودة والموالاة تتضمن المحبة ، فدل ذلك على أنه لا بد في الإيمان من محبة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - مما ينافي [ ص: 245 ] محبة من حاد الله ورسوله ، ولهذا لا تكون موالاة الله ورسوله إلا بمعاداة من عادى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - . كقول إبراهيم والذين معه : قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده .

وفي الصحيحين أنه قال : "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" .

وفي صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب قال : "والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي! " . قال : "لا يا عمر ، حتى أكون أحب إليك من نفسك" . قال : "فلأنت أحب إلي من نفسي" . قال : "الآن يا عمر" .

بل أبلغ من ذلك قوله تعالى : قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين . فهذا وعيد لمن كان أهله الذين يحبهم وأمواله التي يحبها أحب إليه من الله ورسوله وجهاد في سبيله . فكيف إذا كان الصور المحرمة والمال المحرم ومكاره كثيرة ، فكيف إذا كان هذا وهذا؟ وهو أحب إليه من الله [ ص: 246 ] ورسوله بدون الجهاد .

التالي السابق


الخدمات العلمية