الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والمقصود أن هذا العالم لما لم يكن مقصوده إلا الدنيا بما علمه [ ص: 267 ] من العلم وبما يعلمه ، وذلك مما يبتغى به وجه الله ، لم يكن له عند الله قيمة ، ولم يكن للعلم في قلبه حلاوة ، ولم يرتع في رياض الجنة في الدنيا ، وهي مجالس الذكر ، فلم يرح رائحة الجنة . فالأول طلب العلم لكسب الأموال والجاه ، فكان عقوبته أن لا يجد رائحة الجنة .

والثاني طلبه لمقاصد مذمومة من المباهاة والمماراة وصرف وجوه الناس ، فكان جنس مطلوبه محرما ، فلقي الله وهو عليه غضبان .

والأول جنس مطلوبه مباح ، فلم يجد رائحة الجنة في الدنيا ، فلم يرتع في رياضها ، فقلبه محجوب عنها بما فيه من طلب الدنيا .

وفي حديث مكحول المرسل : "من أخلص لله العبادة أربعين صباحا تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه" . وحكي عن أبي حامد قال : أخلصت لله أربعين صباحا فلم يفجر لي شيء ، فذكرت ذلك لبعض أهل المعرفة ، فقال : إنك لم تخلص لله ، وإنما أخلصت للحكمة .

وكذلك الحكاية المشهورة عن الحسن في ذلك الرجل الذي كان يتعبد ليراه الناس وليقال ، فكان الناس يذمونه ، ثم أخلص لله ولم يغير عمله الظاهر ، فألقى الله له المحبة في قلوب الناس ، كما قال تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا . [ ص: 268 ]

وإذا كانت العبادة تبقى ببقاء معبودها فكل معبود سوى الله باطل ، فلا تبقى النفس ، بل تضل وتشقى بعبادة غير الله شقاء أبديا ، كما قال تعالى : ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق . إنما كان بقاؤها ببقاء معبودها لأنها مريدة بالذات ، فلا بد لها من مراد محبوب هو إلهها الذي تبقى ببقائه ، فإذا بطل بطلت وتلاشى أمرها ، وما ثم باق إلا الله . والأفلاك وما فيها كله يستحيل ، والملائكة مخلوقون يستحيلون ، بل ويموتون عند جمهور العلماء .

والعبد ينتفع بما خلق بشيء من حيث هي من آيات الله له فيها ، فهي وسيلة له إلى معرفة الله وعبادته ، ولو كان العلم هو الموجب لما يطلبه هؤلاء لكان هو العلم بالله ، فإنه هو الحق ، وما سواه باطل ، ومن له من مخلوقاته فالعلم به تابع للعلم بالله ، والعلم الأعلى هو العلم بالأعلى . كما قال : سبح اسم ربك الأعلى ، فهو رب كل ما سواه ، فهو الأصل ، فكذلك العلم به سيد جميع العلوم وهو أصل لها .

التالي السابق


الخدمات العلمية