الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
تذكير المؤنث

يكثر في تأويله بمذكر ، كقوله تعالى : فمن جاءه موعظة من ربه ( البقرة : 275 ) على تأويلها بالوعظ .

وقوله : وأحيينا به بلدة ميتا ( ق : 11 ) على تأويل البلدة بالمكان ، وإلا لقال : ميتة .

[ ص: 420 ] وقوله : فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي ( الأنعام : 78 ) أي الشخص أو الطالع .

وقوله : قد جاءتكم بينة من ربكم ( الأعراف : 85 ) أي : بيان ودليل وبرهان .

وقوله : وأرسلنا السماء عليهم مدرارا ( الأنعام : 6 ) .

وإنما يترك التأنيث كما يترك في صفات المذكر ، لا كما في قولهم : امرأة معطار ؛ لأن السماء بمعنى المطر مذكر ، قال :


إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا

ويجمع على أسمية وسمي ، قال العجاج :


تلفه الأرواح والسمي

وقوله : وإذا حضر القسمة ( النساء : 8 ) إلى قوله : فارزقوهم منه ( النساء : 8 ) ذكر الضمير لأنه ذهب بالقسمة إلى المقسوم .

وقوله : وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه ( النحل : 66 ) ذهب بالأنعام إلى معنى النعم ، أو حمله على معنى الجمع .

وقوله : إن رحمة الله قريب من المحسنين ( الأعراف : 56 ) ولم يقل : قريبة . قال الجوهري : ذكرت على معنى الإحسان ، وذكر الفراء أن العرب تفرق بين النسب والقرب من المكان ، فيقولون : هذه قريبتي من النسب ، وقريبي من المكان ، فعلوا ذلك فرقا بين قرب النسب والمكان .

قال الزجاج : وهذا غلط ؛ لأن كل ما قرب من مكان ونسب ، فهو جار على ما يقتضيه [ ص: 421 ] من التذكير والتأنيث ؛ يريد أنك إذا أردت القرب من المكان قلت : زيد قريب من عمرو ، وهند قريبة من العباس ، فكذا في النسب .

وقال أبو عبيدة : ذكر " قريب " لتذكير المكان ، أي : مكانا قريبا . ورده ابن الشجري بأنه لو صح لنصب " قريب " على الظرف .

وقال الأخفش : المراد بالرحمة هنا المطر ؛ لأنه قد تقدم ما يقتضيه ، فحمل المذكر عليه .

وقال الزجاج : لأن الرحمة والغفران بمعنى واحد ؛ وقيل : لأنها والرحم سواء .

ومنه وأقرب رحما ( الكهف : 81 ) فحملوا الخبر على المعنى ، ويؤيده قوله تعالى : هذا رحمة من ربي ( الكهف : 98 ) .

وقيل : الرحمة مصدر ، والمصادر كما لا تجمع لا تؤنث .

وقيل : " قريب " على وزن " فعيل " و " فعيل " يستوي فيها المذكر والمؤنث ؛ حقيقيا كان أو غير حقيقي ، ونظيره قوله تعالى : وهي رميم ( يس : 78 ) .

وقيل : من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، مع الالتفات إلى المحذوف ، فكأنه قال : وإن مكان رحمة الله قريب ، ثم حذف المكان وأعطى الرحمة إعرابه وتذكيره .

وقيل : من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، أي : إن رحمة الله شيء قريب أو لطيف ، أو بر ، أو إحسان .

وقيل : من باب إكساب المضاف حكم المضاف إليه ، إذا كان صالحا للحذف والاستغناء عنه بالثاني ، والمشهور في هذا تأنيث المذكر لإضافته إلى مؤنث ، كقوله :


مشين كما اهتزت رماح تسفهت     أعاليها مر الرياح النواسم

فقال : " تسفهت " والفاعل مذكر ؛ لأنه اكتسب تأنيثا من الرياح ؛ إذ الاستغناء عنه جائز ، وإذا كانت الإضافة على هذا تعطي المضاف تأنيثا لم يكن له ، فلأن تعطيه تذكيرا لم يكن له [ ص: 422 ] كما في الآية الكريمة أحق وأولى ؛ لأن التذكير أولى والرجوع إليه أسهل من الخروج عنه .

وقيل : من الاستغناء بأحد المذكورين لكون الآخر تبعا له ، ومعنى من معانيه .

ومنه في أحد الوجوه ، قوله تعالى : فظلت أعناقهم لها خاضعين ( الشعراء : 4 ) فاستغني عن خبر الأعناق بخبر أصحابها ، والأصل هنا : إن رحمة الله قريب ، وهو قريب من المحسنين ، فاستغني بخبر المحذوف عن خبر الموجود ، وسوغ ظهور ذلك المعنى .

ونظير هذه الآية الشريفة قوله تعالى : وما يدريك لعل الساعة قريب ( الشورى : 17 ) قال البغوي : لم يقل ( قريبة ) لأن تأنيثها غير حقيقي ، ومجازها الوقت .

وقال الكسائي : إتيانها قريب .

وقيل : في قوله تعالى : بريح صرصر ( الحاقة : 6 ) ولم يقل : " صرصرة " كما قال : بريح صرصر عاتية ( الحاقة : 6 ) لأن الصرصر وصف مخصوص بالريح لا يوصف به غيرها ، فأشبه باب " حائض " ونحوه ؛ بخلاف " عاتية " فإن غير الريح من الأسماء المؤنثة يوصف به .

وأما قوله تعالى : السماء منفطر به ( المزمل : 18 ) ففي تذكير ( منفطر ) خمسة أقوال :

أحدها : للفراء أن السماء تذكر وتؤنث ، فجاء ( منفطر ) على التذكير .

والثاني : لأبي علي أنه من باب اسم الجنس الذي بينه وبين واحده التاء ، مفرده سماءة ، واسم الجنس يذكر ويؤنث ، نحو : أعجاز نخل منقعر ( القمر : 20 ) .

والثالث : للكسائي ، أنه ذكر حملا على معنى السقف .

[ ص: 423 ] والرابع : لأبي علي أيضا على معنى النسب ، أي : ذات انفطار كقولهم : امرأة مرضع ، أي : ذات رضاع .

والخامس : للزمخشري أنه صفة لخبر محذوف مذكر ، أي : شيء منفطر .

وسأل أبو عثمان المازني بحضرة المتوكل قوما من النحويين ، منهم ابن السكيت ، وأبو بكر بن قادم ، عن قوله تعالى : وما كانت أمك بغيا ( مريم : 28 ) كيف جاء بغير هاء ، ونحن نقول : امرأة كريمة ؛ إذا كانت هي الفاعل ، وبغي هنا الفاعل وليست بمنزلة " القتيل " التي هي بمعنى " المفعول " ؟ فأجاب ابن قادم وخلط ، فقال له المتوكل : أخطأت ، قل يا بكر للمازني ، قال : " بغي " ليس لـ " فعيل " ، وإنما هو " فعول " ، والأصل فيه ( بغوي ) ، فلما التقت واو وياء وسبقت إحداهما بالسكون أدغمت الواو في الياء ، فقيل : بغي ، كما تقول : امرأة صبور ، بغير هاء ؛ لأنها بمعنى صابرة ، فهذا حكم " فعول " إذا عدل عن فاعله ، فإن عدل عن مفعوله جاء بالهاء ، كما قال :


منها اثنتان وأربعون حلوبة

[ ص: 424 ] بمعنى " محلوبة " حكاه التوحيدي في " البصائر " .

وقال البغوي في قوله تعالى : من يحيي العظام وهي رميم ( يس : 78 ) ولم يقل : " رميمة " ؛ لأنه معدول عن فاعله ، وكلما كان معدولا عن جهته ووزنه كان مصروفا عن فاعله ، كقوله : وما كانت أمك بغيا ( مريم : 28 ) أسقط الهاء ؛ لأنها مصروفة عن " باغية " .

وقال الشريف المرتضى في قوله تعالى : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ( هود : 118 - 119 ) إن الضمير في ( ذلك ) يعود للرحمة ، وإنما لم يقل : و " لتلك " لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي ، كقوله تعالى : هذا رحمة من ربي ( الكهف : 98 ) ولم يقل : هذه ، على أن قوله : إلا من رحم ( هود : 119 ) كما يدل على الرحمة يدل على " أن يرحم " ، ويجوز رجوع الكناية إلى قوله : إلا أن يرحم ، والتذكير في موضعه .

قال : ويجوز أن يكون قوله : ولذلك خلقهم ( هود : 119 ) كناية عن اجتماعهم على الإيمان ، وكونهم فيه أمة واحدة ، ولا محالة أنه لهذا خلقهم .

ويطابق هذه الآية قوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ( الذاريات : 56 ) قال : فأما قوله : ولا يزالون مختلفين ( هود : 118 ) فمعناه الاختلاف في الدين والذهاب عن الحق فيه بالهوى والشبهات ، وذكر أبو مسلم بن بحر فيه معنى غريبا فقال : معناه : أن خلف هؤلاء الكفار يخلف سلفهم في الكفر ؛ لأنه سواء قولك : خلف [ ص: 425 ] بعضهم بعضا ، وقولك : اختلفوا ، كما سواء قولك : قتل بعضهم بعضا ، وقولك : اقتتلوا . ومنه قولهم : لا أفعله ما اختلف العصران ، أي : جاء كل واحد منهم بعد الآخر .

واختلف في قوله : وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه ( النحل : 66 ) فقال الكسائي : أي من بطون ما ذكرنا .

وقال الفراء : ذكر لأنه ذهب إلى المعنى ؛ يعني معنى النعم ، وقيل : الأنعام تذكر وتؤنث .

وقال أبو عبيدة : أراد البعض ، أي : من بطون أيها كان ذا لبن .

وأنكر أبو حاتم تذكير الأنعام ، لكنه أراد معنى النعم .

التالي السابق


الخدمات العلمية