الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقد استوعب سبحانه أنواع جنس تكليمه لعباده في قوله تعالى : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ، فجعل ذلك ثلاثة أنواع :

الوحي الذي منه ما هو إلهام للأنبياء يقظة ومناما ، فإن رؤيا الأنبياء وحي .

والتكليم من وراء حجاب ، كما كلم موسى بن عمران حيث ناداه وقربه نجيا .

والتكليم بإرسال رسول يوحي بإذنه ما يشاء هو تكليمه بواسطة إرسال الملك ، كما قال تعالى : إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ، أي علينا أن نجمعه في قلبك ، ثم علينا أن نقرأه [ ص: 285 ] بلسانك . وهذا على أظهر القولين ، وهو أن "قرأ" بالهمزة من الظهور والبيان ، وقولهم : ما قرأت الناقة بسلا جزور قط ، أي ما أظهرته ، بخلاف "قرى يقري" فإنه من الجمع ، ومنه سميت القرية قرية ، والمقراة مجتمع الماء .

فقوله تعالى : إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه أي قرأناه بواسطة جبريل فاتبع قرآنه . وهذا كقوله تعالى : نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون ، وإنما ذلك بتوسط قراءة جبريل وتلاوته ، كقوله : أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء . فإن هذا قد جعله سبحانه أحد أنواع الجنس العام المقسوم ، وهو تكليم الله لعباده ، ولهذا قال عبادة بن الصامت : رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في منامه .

وأدنى مراتب ذلك الوحي المشترك : الذي يكون لغير الأنبياء ، كقوله : وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي ، وقوله : وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه .

وهذا الوحي المشترك هو الذي أدرجه في النبوة من الفلاسفة من أدرجه ، كابن سينا وأمثاله ، فإن أرسطو وأتباعه القدماء ليس لهم في النبوة كلام ، إذ كان أرسطو هو وزير الإسكندر بن فيلبس المقدوني [ ص: 286 ] الذي يؤرخ له التاريخ الرومي ، وبه يؤرخ كثير من اليهود والنصارى ، وكان قبل المسيح عليه السلام بنحو ثلاثمائة سنة . وبعد المسيح بنحو ثلاثمائة سنة كان قسطنطين الذي أقام دين النصارى بالسيف ، وفي عهده أحدثوا الأمانة وتعظيم الصليب واستحلال الخنزير والقول بالتثليث والأقانيم بمجمعهم الأول المسمى بمجمع نيقية .

وهذا الإسكندر المقدوني هو الذي ذهب إلى أرض الفرس وغير ممالكهم ، وليس هو ذا القرنين المذكور في القرآن ، الذي بنى سد يأجوج ومأجوج ، فإن هذا كان متقدما على ذلك ، وكان موحدا مسلما .

والمقدوني لم يصل إلى تلك الأرض ، وكان هو وقومه مشركين يعبدون الهياكل العلوية والأصنام الأرضية ، ولم يزالوا على ذلك حتى وصلت إليهم دعوة المسيح عليه الصلاة والسلام ، فأسلم منهم من أسلم ، وكانوا متبعين لدين المسيح الحق ، إلى أن بدل منه ما بدل .

وهؤلاء كانوا بأرض الروم وجزائر البحر ، لم يصل إليهم من أخبار إبراهيم وآل إبراهيم -كموسى بن عمران وغيره- ما عرفوا به حقيقة النبوة ، ولهذا كان أرسطو أول من قال بقدم الأفلاك من هؤلاء ، بخلاف من قبله كأفلاطون وشيخه سقراط ، وشيخ سقراط فيثاغورس ، وشيخ فيثاغورس انبدقلس ، فإن هؤلاء كانوا يقولون بحدوث صورة الفلك ، ولهم في المبادئ كلام طويل قد بسطناه في الكتاب الكبير الذي ذكرنا فيه مقالات العالم في مسألة [ ص: 287 ] حدوث العالم وقدمه ، فإنها منشأ نزاع الأولين والآخرين في أقوال الرب وأفعاله ، وعنها تنازع أهل الملل من المسلمين وأهل الكتاب في كلام الرب : هل هو قديم النوع أو العين؟ وهل هو قائم به أو مباين له؟ وهل يتكلم بقدرته ومشيئته أو هو لازم له لزوم الحياة؟

التالي السابق


الخدمات العلمية