الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي وعكسه

قد سبق منه كثير في نوع الالتفات ؛ ويغلب ذلك فيما إذا كان مدلول الفعل من الأمور الهائلة المهددة المتوعد بها ، فيعدل فيه إلى لفظ الماضي تقريرا وتحقيقا لوقوعه ، كقوله تعالى : ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ( النمل : 87 ) .

وقوله في الزمر : ونفخ في الصور فصعق ( الزمر : 68 ) .

وقوله : وبرزوا لله جميعا ( إبراهيم : 21 ) .

وقوله : ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم ( الكهف : 47 ) أي : نحشرهم .

وقوله : ونادى أصحاب الأعراف رجالا ( الأعراف : 48 ) ثم تارة يجعل المتوقع فيه كالواقع ، فيؤتى بصيغة الماضي مرادا به المضي ؛ تنزيلا للمتوقع منزلة ما وقع ، فلا يكون تعبيرا عن المستقبل بلفظ الماضي ، بل جعل المستقبل ماضيا مبالغة .

ومنه : أتى أمر الله فلا تستعجلوه ( النحل : 1 ) ونادى أصحاب الجنة ( الأعراف : 44 ) ونحوه .

وقد يعبر عن المستقبل بالماضي مرادا به المستقبل ؛ فهو مجاز لفظي ، كقوله تعالى : ويوم ينفخ في الصور ففزع ( النمل : 87 ) فإنه لا يمكن أن يراد به المضي ، لمنافاة [ ص: 432 ] ( ينفخ ) الذي هو مستقبل في الواقع ، وفائدة التعبير عنه بالماضي الإشارة إلى استحضار التحقق ، وإنه من شأنه لتحققه أن يعبر عنه بالماضي ، وإن لم يرد معناه ، والفرق بينهما أن الأول مجاز ، والثاني لا مجاز فيه إلا من جهة اللفظ فقط .

وقوله : وإذ قال الله ياعيسى ( المائدة : 116 ) أي : يقول . عكسه لأن المضارع يراد به الديمومة والاستمرار ، كقوله تعالى : أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب ( البقرة : 44 ) .

وقوله : ثم قال له كن فيكون ( آل عمران : 59 ) أي : فكان . استحضارا لصورة تكونه .

وقوله : واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ( البقرة : 102 ) أي : ما تلت .

وقوله تعالى : ولقد نعلم ( الحجر : 97 ) أي : علمنا .

فإن قيل : كيف يتصور التقليل في علم الله ؟

قيل : المراد أنهم أقل معلوماته ، ولأن المضارع هنا بمعنى الماضي ، فـ " قد " فيه للتحقيق لا التقليل .

وقوله : فلم تقتلون أنبياء الله ( البقرة : 91 ) أي : فلم قتلتم .

وقوله : حتى تأتيهم البينة ( البينة : 1 ) أي : لم يتعارفوا حتى تأتيهم .

وقوله : منفكين ( البينة : 1 ) قال مجاهد : " منتهين " ، وقيل : زائلين من الدنيا .

وقال الأزهري : ليس هو من باب " ما انفك " و " ما زال " ، إنما هو من انفكاك الشيء : إذا انفصل عنه .

[ ص: 433 ] وقوله : وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم ( المائدة : 18 ) المعنى : فلم عذب آباءكم بالمسخ والقتل ؟ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤمر بأن يحتج عليهم بشيء لم يكن بعد ؛ لأن الجاحد يقول : إني لا أعذب ، لكن احتج عليهم بما قد كان .

وقوله : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة ( الحج : 63 ) فعدل عن لفظ " أصبحت " إلى " تصبح " قصدا للمبالغة في تحقيق اخضرار الأرض لأهميته إذ هو المقصود بالإنزال .

فإن قلت : كيف قال النحاة : إنه يجب نصب الفعل المقرون بالفاء إذا وقع في جواب الاستفهام كقوله تعالى : فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا ( الأعراف : 53 ) و " فتصبح " هنا مرفوع .

قلت : لوجوه :

أحدها : أن شرط الفاء المقتضية للنصب أن تكون سببية ، وهنا ليست كذلك ، بل هي للاستئناف ؛ لأن الرؤية ليست سببا للإصباح .

الثاني : أن شرط النصب أن ينسبك من الفاء وما قبلها شرط وجزاء ، وهنا ليس كذلك ؛ لأنه لو قيل : إن تر أن الله أنزل ماء تصبح ؛ لم يصح ؛ لأن إصباح الأرض حاصل سواء رئي أم لا .

فإن قيل : شاع في كلامهم إلغاء فعل الرؤية ، كما في قوله : ولا تزال - تراها - ظالمة ، أي : ولا تزال ظالمة ، وحينئذ فالمعنى منصب إلى الإنزال لا إلى الرؤية ؛ ولا شك أنه يصح أن يقال : " إن أنزل تصبح " فقد انعقد الشرط والجزاء .

[ ص: 434 ] قلت : إلغاء فعل الرؤية في كلامهم جائز لا واجب ؛ فمن أين لنا ما يقتضي تعيين حمل الآية عليه ؟

الثالث : إن همزة الاستفهام إذا دخلت على موجب تقلبه إلى النفي ، كقوله تعالى : أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ( المائدة : 116 ) وإذا دخلت على نفي تقلبه إلى الإيجاب ، فالهمزة في الآية للتقرير ، فلما انتقل الكلام من النفي إلى الإيجاب لم ينتصب الفعل ؛ لأن شرط النفي كون السابق منفيا محضا ، ذكره العزيزي في " البرهان " .

ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة السجدة : أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا ( السجدة : 27 ) .

الرابع : " أنه لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض ؛ لأن معناه إثبات الاخضرار ، فكان ينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار ، مثاله أن تقول لصاحبك : ألم تر أني أنعمت فتشكر ! إن نصبت فأنت ناف لشكره ، شاك تفريطه ، وإن رفعت فأنت مثبت لشكره . ذكر هذا الزمخشري في " الكشاف " قال : وهذا ومثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الإعراب وتوقير أهله " .

وقال ابن الخباز : النصب يفسد المعنى ؛ لأن رؤية المخاطب الماء الذي أنزله الله ليس سببا للاخضرار ؛ وإنما الماء نفسه هو سبب الاخضرار .

ومنه قوله تعالى : والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت ( فاطر : 9 ) .

فقال : " تثير " مضارعا ، وما قبله وما بعده ماضيا ؛ مبالغة في تحقيق إثارة الرياح السحاب للسامعين وتقدير تصوره في أذهانهم .

[ ص: 435 ] فإن قيل : أهم الأفعال المذكورة في الآية إحياء الموتى ، وقد ذكر بلفظ الماضي ، وما ذكرته يقتضي أولوية ذكره بلفظ المضارع ، إذ هو أهم ، وإثارة السحاب سبب أعيد على قريب .

قيل : لا نسلم بأهمية إحياء الأرض بعد موتها ، فالمقدمات المذكورة أهمها وأدلها على القدرة أعجبها وأبعدها عن قدرة البشر ، وإثارة السحاب أعجبها ، فكان أولى بالتخصيص بالمضارع ، وإنما قال : إن إثارة السحاب أعجب ؛ لأن سببها أخفى من حيث أنا نعلم بالفعل أن نزول الماء سبب في اخضرار الأرض ، وإثارة السحاب وسوقه سبب نزول الماء ، فلو خلينا وظاهر العقل لم نعلم أن الرياح سببها ؛ لعدم إحساسنا بمادة السحاب وجهته ، ولطافة الريح عن إدراك الحس .

ومن لواحق ذلك العدول عن المستقبل إلى اسم المفعول ؛ لتضمنه معنى الماضي ، كقوله تعالى : ذلك يوم مجموع له الناس ( هود : 103 ) تقريرا للجمع فيه ، وأنه لا بد أن يكون معادا للناس مضروبا لجميعهم ، وإن شئت فوازن بينه وبين قوله : يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ( التغابن : 9 ) لتعرف صحة هذا المعنى .

فإن قلت : الماضي أدل على هذا المقصود من اسم المفعول ، فلم عدل عنه إلى ما دلالته أضعف ؟ قلت : لتحصل المناسبة بين " مجموع " و " مشهود " في استواء شأنهما طلبا للتعديل في العبارة .

ومنه العدول عن المستقبل إلى اسم الفاعل ، كقوله تعالى : وإن الدين لواقع ( الذاريات : 6 ) فإن اسم الفاعل ليس حقيقة في الاستقبال ، بل في الحال .

التالي السابق


الخدمات العلمية