التقسيم
وليس المراد به القسمة العقلية التي يتكلم عليها المتكلم ؛ لأنها قد تقتضي أشياء مستحيلة كقولهم : الجواهر لا تخلو إما أن تكون مجتمعة أو متفرقة ، أو لا مفترقة ولا مجتمعة ، أو مجتمعة ومفترقة معا ، أو بعضها مجتمع وبعضها مفترق ، فإن هذه القسمة صحيحة عقلا ، لكن بعضها يستحيل وجوده ، فإن الشيء لا يكون مجتمعا متفرقا في حالة واحدة ، وإنما المراد هنا بالتقسيم ما يقتضيه المعنى مما يمكن وجوده ، وهو استيفاء المتكلم أقسام الشيء ، بحيث لا يغادر شيئا وهو آلة الحصر ومظنة الإحاطة بالشيء ، كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=32فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ( فاطر : 32 ) فإنه لا يخلو العالم جميعا من هذه الأقسام الثلاثة : إما عاص ظالم نفسه ، وإما سابق مبادر إلى الخيرات ، وإما مقتصد فيها ، وهذا من أوضح التقسيمات وأكملها .
[ ص: 515 ] ومثله قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=7وكنتم أزواجا ثلاثة nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=8فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=9وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=10والسابقون السابقون ( الواقعة : 7 إلى 10 ) وهذه الآية مماثلة في المعنى للتي قبلها ، وأصحاب المشأمة هم الظالمون لأنفسهم ، وأصحاب الميمنة هم المقتصدون ، والسابقون هم السابقون بالخيرات .
كذلك قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=64له ما بين أيدينا وما خلفنا ( مريم : 64 ) الآية ، فاستوفى أقسام الزمان ولا رابع لها .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=45والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ( النور : 45 ) إلى قوله : ما يشاء ( النور : 45 ) وهو في القرآن كثير وخصوصا في سورة ( براءة ) .
ومنه قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=12هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا ( الرعد : 12 ) وليس في رؤية البرق إلا الخوف من الصواعق والطمع في الأمطار ، ولا ثالث لهما .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=17فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=18وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون ( الروم : 17 - 18 ) فاستوفت أقسام الأوقات من طرفي كل يوم ووسطه مع المطابقة والمقابلة .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=191الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ( آل عمران : 191 ) فلم يترك سبحانه قسما من أقسام الهيئات .
ومثله آية يونس :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=12وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما ( الآية : 12 ) .
لكن وقع بين ترتيب الآيتين مغايرة أوجبتها المبالغة ، وذلك أن المراد بالذكر في الأولى الصلاة ، فيجب فيها تقديم القيام عند العجز عن القعود ، ثم عند الاضطجاع ، وهذه بخلاف الضر ، فإنه يجب فيه تقديم الاضطجاع ، وإذا زال بعض الضر قعد المضطجع ، وإذا زال كل الضر قام القاعد ، فدعا لتتم الصحة وتكمل القوة .
[ ص: 516 ] فإن قلت : هذا التأويل لا يتم إلا إذا كانت الواو عاطفة ، فإنها تحصل في الكلام حسن اتساق وائتلاف الألفاظ مع المعاني ، وقد عدل عنها إلى " أو " التي سقط معها ذلك .
قلت : يأتي التضرع على أقسام : فإن منه ما يتضرع المضرور عند وروده ، ومنه ما يقعده ، ومنه ما يأتي وصاحبه قائم لا يبلغ به شيئا ، والدعاء عنده أولى من التضرع ، فإن الصبر والجزع عند الصدمة الأولى ، فوجب العدول عن الواو لتوخي الصدق في الخبر ، والكلام مع ذلك موصوف بالائتلاف ، ويحصل النسق والخبر بذلك التأويل الأول عن شخص واحد ، وبالثاني عن أشخاص ، فغلب الكثرة ، فوجب الإتيان بـ " أو " وابتدئ بالشخص الذي تضرع ؛ لأن خبره أشد فهو أشد تضرعا ، فوجب تقديم ذكره ، ثم القاعد ثم القائم ، فحصل حسن الترتيب وائتلاف الألفاظ ومعانيها .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=49يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=50أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما ( الشورى : 49 - 50 ) قسم سبحانه حال الزوجين إلى أربعة أقسام : اشتمل عليها الوجود ؛ لأنه سبحانه إما أن يفرد العبد بهبة الإناث ، أو بهبة الذكور ، أو يجمعهما له ، أو لا يهب شيئا ، وقد جاءت الأقسام في هذه الآية لينتقل منها إلى أعلى منها ، وهي هبة الذكور فيه ، ثم انتقل إلى أعلى منها ، وهي هبتهما جميعا ، وجاءت كل أقسام العطية بلفظ الهبة ، وأفرد معنى الحرمان بالتأخير ، وقال فيه : ( يجعل ) فعدل عن لفظ الهبة للتغاير بين المعاني ، كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=63أفرأيتم ما تحرثون nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=64أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=65لو نشاء لجعلناه حطاما ( الواقعة : 63 - 65 ) فذكر امتداد إنمائه بلفظ الزرع ، ومعنى الحرمان بلفظ الجعل .
[ ص: 517 ] وقيل :
إنما بدأ سبحانه بالإناث لوجوه غير ما سبق .
أحدها : جبرا لهن ؛ لأجل استثقال الأبوين لمكانهن .
الثاني : أن سياق الكلام أنه فاعل لما يشاء ، لا ما يشاء الأبوان ، فإن الأبوين لا يريدان إلا الذكور غالبا ، وهو سبحانه قد أخبر أنه يخلق ما يشاء ، فبدأ بذكر الصنف الذي يشاؤه ولا يريده الأبوان غالبا .
الثالث : أنه قدم ذكر ما كانت تؤخره الجاهلية من أمر البنات حتى كانوا يئدوهن ، أي : هذا النوع الحقير عندكم مقدم عندي في الذكر .
الرابع : قدمهن لضعفهن ، وعند العجز والضعف تكون العناية أتم .
وقيل : لينقله من الغم إلى الفرج .
وتأمل كيف عرف سبحانه الذكور بعد تنكير ، فجبر نقص الأنوثة بالتقديم ، وجبر نقص المتأخر بالتعريف ، فإن التعريف تنويه .
وهذا أحسن مما ذكره
الواحدي أنه عرف الذكور لأجل الفاصلة .
ولما ذكر الصنفين معا قدم الذكور ، فأعطى لكل من الجنسين حقه من التقديم والتأخير ، والله أعلم بما أراد .
بقي سؤال آخر ؛ وهو أنه عطف الثاني والرابع بالواو ، والثالث بـ " أو " ، ولعله لأن هبة كل من الإناث والذكور قد لا يقترن بها ، فكأنه وهب لهذا الصنف وحده ، أو مع غيره ، فلذلك تعينت " أو " ، فتأمل لطائف القرآن وبدائعه .
[ ص: 518 ] ومن هذا التقسيم أخذ بعض العلماء أن
الخنثى لا وجود له ؛ لأنه ليس واحدا من المذكورين ، ولا حجة فيه ؛ لأنه مقام امتنان ، والمنة بغير الخنثى أحسن وأعظم ، أو لأنه باعتبار ما في نفس الأمر ، والخنثى لا يخرج عن أحدهما .
التَّقْسِيمُ
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْقِسْمَةَ الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي يَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا الْمُتَكَلِّمُ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَقْتَضِي أَشْيَاءَ مُسْتَحِيلَةً كَقَوْلِهِمْ : الْجَوَاهِرُ لَا تَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُجْتَمِعَةً أَوْ مُتَفَرِّقَةً ، أَوْ لَا مُفْتَرِقَةً وَلَا مُجْتَمِعَةً ، أَوْ مُجْتَمِعَةً وَمُفْتَرِقَةً مَعًا ، أَوْ بَعْضُهَا مُجْتَمِعٌ وَبَعْضُهَا مُفْتَرِقٌ ، فَإِنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ صَحِيحَةٌ عَقْلًا ، لَكِنَّ بَعْضَهَا يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ ، فَإِنَّ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ مُجْتَمِعًا مُتَفَرِّقًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ هُنَا بِالتَّقْسِيمِ مَا يَقْتَضِيهِ الْمَعْنَى مِمَّا يُمْكِنُ وُجُودُهُ ، وَهُوَ اسْتِيفَاءُ الْمُتَكَلِّمِ أَقْسَامَ الشَّيْءِ ، بِحَيْثُ لَا يُغَادِرُ شَيْئًا وَهُوَ آلَةُ الْحَصْرِ وَمَظِنَّةُ الْإِحَاطَةِ بِالشَّيْءِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=32فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ( فَاطِرٍ : 32 ) فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو الْعَالَمُ جَمِيعًا مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ : إِمَّا عَاصٍ ظَالِمٌ نَفْسَهُ ، وَإِمَّا سَابِقٌ مُبَادِرٌ إِلَى الْخَيْرَاتِ ، وَإِمَّا مُقْتَصِدٌ فِيهَا ، وَهَذَا مِنْ أَوْضَحِ التَّقْسِيمَاتِ وَأَكْمَلِهَا .
[ ص: 515 ] وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=7وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=8فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=9وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=10وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ( الْوَاقِعَةِ : 7 إِلَى 10 ) وَهَذِهِ الْآيَةُ مُمَاثِلَةٌ فِي الْمَعْنَى لِلَّتِي قَبْلَهَا ، وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ هُمُ الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ، وَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ هُمُ الْمُقْتَصِدُونَ ، وَالسَّابِقُونَ هُمُ السَّابِقُونَ بِالْخَيْرَاتِ .
كَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=64لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا ( مَرْيَمَ : 64 ) الْآيَةَ ، فَاسْتَوْفَى أَقْسَامَ الزَّمَانِ وَلَا رَابِعَ لَهَا .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=45وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ ( النُّورِ : 45 ) إِلَى قَوْلِهِ : مَا يَشَاءُ ( النُّورِ : 45 ) وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ وَخُصُوصًا فِي سُورَةِ ( بَرَاءَةٌ ) .
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=12هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا ( الرَّعْدِ : 12 ) وَلَيْسَ فِي رُؤْيَةِ الْبَرْقِ إِلَّا الْخَوْفُ مِنَ الصَّوَاعِقِ وَالطَّمَعُ فِي الْأَمْطَارِ ، وَلَا ثَالِثَ لَهُمَا .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=17فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=18وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ( الرُّومِ : 17 - 18 ) فَاسْتَوْفَتْ أَقْسَامَ الْأَوْقَاتِ مِنْ طَرَفَيْ كُلِّ يَوْمٍ وَوَسَطِهِ مَعَ الْمُطَابَقَةِ وَالْمُقَابَلَةِ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=191الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ( آلِ عِمْرَانَ : 191 ) فَلَمْ يَتْرُكْ سُبْحَانَهُ قِسْمًا مِنْ أَقْسَامِ الْهَيْئَاتِ .
وَمِثْلُهُ آيَةُ يُونُسَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=12وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا ( الْآيَةَ : 12 ) .
لَكِنْ وَقَعَ بَيْنَ تَرْتِيبِ الْآيَتَيْنِ مُغَايِرَةٌ أَوْجَبَتْهَا الْمُبَالَغَةُ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ فِي الْأُولَى الصَّلَاةُ ، فَيَجِبُ فِيهَا تَقْدِيمُ الْقِيَامِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْقُعُودِ ، ثُمَّ عِنْدَ الِاضْطِجَاعِ ، وَهَذِهِ بِخِلَافِ الضُّرِّ ، فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيهِ تَقْدِيمُ الِاضْطِجَاعِ ، وَإِذَا زَالَ بَعْضُ الضُّرِّ قَعَدَ الْمُضْطَجِعُ ، وَإِذَا زَالَ كُلُّ الضُّرِّ قَامَ الْقَاعِدُ ، فَدَعَا لِتَتِمَّ الصِّحَّةُ وَتَكْمُلَ الْقُوَّةُ .
[ ص: 516 ] فَإِنْ قُلْتَ : هَذَا التَّأْوِيلُ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْوَاوُ عَاطِفَةً ، فَإِنَّهَا تُحَصِّلُ فِي الْكَلَامِ حُسْنَ اتِّسَاقٍ وَائْتِلَافَ الْأَلْفَاظِ مَعَ الْمَعَانِي ، وَقَدْ عَدَلَ عَنْهَا إِلَى " أَوْ " الَّتِي سَقَطَ مَعَهَا ذَلِكَ .
قُلْتُ : يَأْتِي التَّضَرُّعُ عَلَى أَقْسَامٍ : فَإِنَّ مِنْهُ مَا يَتَضَرَّعُ الْمَضْرُورُ عِنْدَ وُرُودِهِ ، وَمِنْهُ مَا يُقْعِدُهُ ، وَمِنْهُ مَا يَأْتِي وَصَاحِبُهُ قَائِمٌ لَا يَبْلُغُ بِهِ شَيْئًا ، وَالدُّعَاءُ عِنْدَهُ أَوْلَى مِنَ التَّضَرُّعِ ، فَإِنَّ الصَّبْرَ وَالْجَزَعَ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى ، فَوَجَبَ الْعُدُولُ عَنِ الْوَاوِ لِتَوَخِّي الصِّدْقِ فِي الْخَبَرِ ، وَالْكَلَامُ مَعَ ذَلِكَ مَوْصُوفٌ بِالِائْتِلَافِ ، وَيَحْصُلُ النَّسَقُ وَالْخَبَرُ بِذَلِكَ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ ، وَبِالثَّانِي عَنْ أَشْخَاصٍ ، فَغَلَّبَ الْكَثْرَةَ ، فَوَجَبَ الْإِتْيَانُ بِـ " أَوْ " وَابْتُدِئَ بِالشَّخْصِ الَّذِي تَضَرَّعَ ؛ لِأَنَّ خَبَرَهُ أَشَدُّ فَهُوَ أَشَدُّ تَضَرُّعًا ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُ ذِكْرِهِ ، ثُمَّ الْقَاعِدُ ثُمَّ الْقَائِمُ ، فَحَصَلَ حُسْنُ التَّرْتِيبِ وَائْتِلَافُ الْأَلْفَاظِ وَمَعَانِيهَا .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=49يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=50أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا ( الشُّورَى : 49 - 50 ) قَسَّمَ سُبْحَانَهُ حَالَ الزَّوْجَيْنِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْوُجُودُ ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِمَّا أَنْ يُفْرِدَ الْعَبْدَ بِهِبَةِ الْإِنَاثِ ، أَوْ بِهِبَةِ الذُّكُورِ ، أَوْ يَجْمَعُهُمَا لَهُ ، أَوْ لَا يَهَبُ شَيْئًا ، وَقَدْ جَاءَتِ الْأَقْسَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِيَنْتَقِلَ مِنْهَا إِلَى أَعْلَى مِنْهَا ، وَهِيَ هِبَةُ الذُّكُورِ فِيهِ ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى أَعْلَى مِنْهَا ، وَهِيَ هِبَتُهُمَا جَمِيعًا ، وَجَاءَتْ كُلُّ أَقْسَامِ الْعَطِيَّةِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ ، وَأَفْرَدَ مَعْنَى الْحِرْمَانِ بِالتَّأْخِيرِ ، وَقَالَ فِيهِ : ( يَجْعَلُ ) فَعَدَلَ عَنْ لَفْظِ الْهِبَةِ لِلتَّغَايُرِ بَيْنَ الْمَعَانِي ، كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=63أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=64أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=65لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا ( الْوَاقِعَةِ : 63 - 65 ) فَذَكَرَ امْتِدَادَ إِنْمَائِهِ بِلَفْظِ الزَّرْعِ ، وَمَعْنَى الْحِرْمَانِ بِلَفْظِ الْجَعْلِ .
[ ص: 517 ] وَقِيلَ :
إِنَّمَا بَدَأَ سُبْحَانَهُ بِالْإِنَاثِ لِوُجُوهٍ غَيْرِ مَا سَبَقَ .
أَحَدُهَا : جَبْرًا لَهُنَّ ؛ لِأَجْلِ اسْتِثْقَالِ الْأَبَوَيْنِ لِمَكَانِهِنَّ .
الثَّانِي : أَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ أَنَّهُ فَاعِلٌ لِمَا يَشَاءُ ، لَا مَا يَشَاءُ الْأَبَوَانِ ، فَإِنَّ الْأَبَوَيْنِ لَا يُرِيدَانِ إِلَّا الذُّكُورَ غَالِبًا ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ، فَبَدَأَ بِذِكْرِ الصِّنْفِ الَّذِي يَشَاؤُهُ وَلَا يُرِيدُهُ الْأَبَوَانِ غَالِبًا .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ قَدَّمَ ذِكْرَ مَا كَانَتْ تُؤَخِّرُهُ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ أَمْرِ الْبَنَاتِ حَتَّى كَانُوا يَئِدُوهُنَّ ، أَيْ : هَذَا النَّوْعُ الْحَقِيرُ عِنْدَكُمْ مُقَدَّمٌ عِنْدِي فِي الذِّكْرِ .
الرَّابِعُ : قَدَّمَهُنَّ لِضَعْفِهِنَّ ، وَعِنْدَ الْعَجْزِ وَالضَّعْفِ تَكُونُ الْعِنَايَةُ أَتَمَّ .
وَقِيلَ : لِيَنْقِلَهُ مِنَ الْغَمِّ إِلَى الْفَرَجِ .
وَتَأَمَّلْ كَيْفَ عَرَّفَ سُبْحَانَهُ الذُّكُورَ بَعْدَ تَنْكِيرٍ ، فَجَبَرَ نَقْصَ الْأُنُوثَةِ بِالتَّقْدِيمِ ، وَجَبَرَ نَقْصَ الْمُتَأَخِّرِ بِالتَّعْرِيفِ ، فَإِنَّ التَّعْرِيفَ تَنْوِيهٌ .
وَهَذَا أَحْسَنُ مِمَّا ذَكَرَهُ
الْوَاحِدِيُّ أَنَّهُ عَرَّفَ الذُّكُورَ لِأَجْلِ الْفَاصِلَةِ .
وَلَمَّا ذَكَرَ الصِّنْفَيْنِ مَعًا قَدَّمَ الذُّكُورَ ، فَأَعْطَى لِكُلٍّ مِنَ الْجِنْسَيْنِ حَقَّهُ مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ .
بَقِيَ سُؤَالٌ آخَرُ ؛ وَهُوَ أَنَّهُ عَطَفَ الثَّانِيَ وَالرَّابِعَ بِالْوَاوِ ، وَالثَّالِثَ بِـ " أَوْ " ، وَلَعَلَّهُ لِأَنَّ هِبَةَ كُلٍّ مِنَ الْإِنَاثِ وَالذُّكُورِ قَدْ لَا يَقْتَرِنُ بِهَا ، فَكَأَنَّهُ وَهَبَ لِهَذَا الصِّنْفِ وَحْدَهُ ، أَوْ مَعَ غَيْرِهِ ، فَلِذَلِكَ تَعَيَّنَتْ " أَوْ " ، فَتَأَمَّلْ لَطَائِفَ الْقُرْآنِ وَبَدَائِعَهُ .
[ ص: 518 ] وَمِنْ هَذَا التَّقْسِيمِ أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ
الْخُنْثَى لَا وُجُودَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ وَاحِدًا مِنَ الْمَذْكُورِينَ ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مَقَامُ امْتِنَانٍ ، وَالْمِنَّةُ بِغَيْرِ الْخُنْثَى أَحْسَنُ وَأَعْظَمُ ، أَوْ لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، وَالْخُنْثَى لَا يَخْرُجُ عَنْ أَحَدِهِمَا .