الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
الوجه الثالث في أدلته : ولما كان الحذف لا يجوز إلا لدليل احتيج إلى ذكر دليله .

والدليل تارة يدل على محذوف مطلق ، وتارة على محذوف معين .

فمنها : أن يدل عليه العقل حيث تستحيل صحة الكلام عقلا إلا بتقدير محذوف ; كقوله تعالى : واسأل القرية ( يوسف : 82 ) فإنه يستحيل عقلا تكلم الأمكنة إلا معجزة .

ومنها : أن تدل عليه العادة الشرعية ، كقوله تعالى : إنما حرم عليكم الميتة ( النحل : 115 ) فإن الذات لا تتصف بالحل والحرمة شرعا ، إنما هما من صفات الأفعال الواقعة على الذوات ، فعلم أن المحذوف التناول ; ولكنه لما حذف وأقيمت الميتة مقامه أسند [ ص: 181 ] إليها الفعل وقطع النظر عنه ، فلذلك أنث الفعل في بعض الصور ، كقوله تعالى : حرمت عليكم الميتة ( المائدة : 3 ) وقول صاحب " التلخيص " : " إن هذه الآية من باب دلالة العقل " ممنوع ; لأن العقل لا يدرك محل الحل ولا الحرمة ، فلهذا جعلناه من دلالة العادة الشرعية .

ومنها : أن يدل العقل عليهما ; أي : على الحذف والتعيين ; كقوله تعالى : وجاء ربك ( الفجر : 22 ) أي : أمره أو عذابه أو ملائكته ; لأن العقل دل على أصل الحذف ، ولاستحالة مجيء البارئ عقلا ; لأن المجيء من سمات الحدوث ، ودل العقل أيضا على التعيين ، وهو الأمر ونحوه ، وكلام الزمخشري يقتضي أنه لا حذف ألبتة ، فإنه قال : هذه الآية الكريمة تمثيل ; مثلت حاله سبحانه وتعالى في ذلك بحال الملك إذا حضر بنفسه .

وكقوله تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ( الأنبياء : 22 ) المقدمة الثانية وهو : لكنها لم تفسد فلم يكن فيها آلهة إلا الله ، لأنه في معرض التوحيد ، فعدم الفساد دليل على عدم تعدد الآلهة ، وإنما حذف لأن انتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم ضرورة ، ولذلك لم يذكر المقدمة الثانية عند استعمال الشرط بلوغا لها .

ومنها أن يدل العقل على أصل الحذف ، وتدل عادة الناس على تعيين المحذوف ، [ ص: 182 ] كقوله تعالى : فذلكن الذي لمتنني فيه ( يوسف : 32 ) فإن يوسف عليه السلام ليس ظرفا للومهن ، فتعين أن يكون غيره ; فقد دل العقل على أصل الحذف ، ثم يجوز أن يكون الظرف حبه بدليل : شغفها حبا ( يوسف : 30 ) أو مراودته ; بدليل : تراود فتاها ( يوسف : 30 ) ولكن العقل لا يعين واحدا منها ، بل العادة دلت على أن المحذوف هو الثاني ، فإن الحب لا يلام عليه صاحبه ; لأنه يقهره ويغلبه ، وإنما اللوم فيما للنفس فيه اختيار ، وهو المراودة ; لقدرته على دفعها .

ومنها : أن تدل العادة على تعيين المحذوف ; كقوله تعالى : قالوا لو نعلم قتالا ( آل عمران : 167 ) أي : مكان قتال ، والمراد مكانا صالحا للقتال ; لأنهم كانوا أخبر الناس بالقتال ، والعادة تمنع أن يريدوا : لو نعلم حقيقة القتال ; فلذلك قدره مجاهد " مكان قتال " .

وقيل : إن تعيين المحذوف هنا من دلالة السياق لا العادة .

ومنها أن يدل اللفظ على الحذف والشروع في الفعل على تعيين المحذوف كقوله : بسم الله ( الفاتحة : 1 ) فإن اللفظ يدل على أن فيه حذفا ; لأن حرف الجر لا بد له من متعلق ، ودل الشروع على تعيينه ، وهو الفعل الذي جعلت التسمية في مبدئه ; من قراءة أو أكل أو شرب ونحوه ، ويقدر في كل موضع ما يليق ، ففي القراءة : أقرأ ، وفي الأكل : آكل ، ونحوه .

وقد اختلف هل يقدر الفعل أو الاسم ؟ وعلى الأول فهل يقدر عام كالابتداء أو خاص كما ذكرنا ؟ .

ومنها اللغة كضربت ، فإن اللغة قاضية أن الفعل المتعدي لا بد له من مفعول ; نعم هي تدل على أصل الحدث لا تعيينه ، وكذلك حذف المبتدأ والخبر .

[ ص: 183 ] ومنها : تقدم ما يدل على المحذوف وما في سياقه كقوله : وأبصر فسوف يبصرون ( الصافات : 179 ) وفي موضع آخر نحو : ما منعك أن تسجد ( ص : 75 ) وفي موضع : ألا تسجد ( الأعراف : 12 ) وكقوله : لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ ( الأحقاف : 35 ) أي : هذا ، بدليل ظهوره في سورة إبراهيم ، فقال تعالى : هذا بلاغ للناس ( إبراهيم : 52 ) ونظائره .

ومنها اعتضاده بسبب النزول ; كما في قوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة ( المائدة : 6 ) فإنه لا بد فيه من تقدير ، فقال زيد بن أسلم : أي : قمتم من المضاجع ، يعني النوم .

وقال غيره : إنما يعني إذا قمتم محدثين .

واحتج لزيد بأن هذه الآية إنما نزلت بسبب فقدان عائشة رضي الله عنها عقدها ، فأخروا الرحيل إلى أن أضاء الصبح ، فطلبوا الماء عند قيامهم من نومهم ، فلم يجدوه ، فأنزل الله هذه الآية .

وبما رجح من طريق النظر بأن الأحداث المذكورة بعد قوله : إذا قمتم ( المائدة : 6 ) الأولى أن يحمل قوله : إذا قمتم معنى غير الحدث ; لما فيه من زيادة الفائدة ، فتكون الآية جامعة للحدث ولسبب الحدث ، فإن النوم ليس بحدث بل سبب للحدث .

التالي السابق


الخدمات العلمية