وتحرير السؤال أن يقال : لا نسلم أن ، فإنهم لو خالفوهم لقلنا : الصواب مع أهل الحديث ، وهو أن القول بالموجب على تقدير ثبوت المخالفة تسليم للمسألة بتقدير وجودها ، وقد منع ذلك في السؤال بقوله : لو سلمنا أن بعضهم حرم ذلك فهل نقل التحريم عن الله أو رسوله أو أهل الإجماع ، ومن سلم الحكم لم يكن له أن يطالب بالدليل ، لأنه منع بعد تسليم ، وهو غير مقبول . [ ص: 68 ] أهل الكلام خالفوا أهل الحديث
وأما السؤال الثالث -وهو نقل الإجماع على بعض التأويلات- فلا يرد أيضا ، لأن ذلك إن صح لم يدخل في الدعوى ، لأنا قلنا : ، وما أجمعوا عليه ليس من هذا الباب . نعم ، يبقى هذا من باب المعارضة لأهل الحديث ، وهي أن يقال : كيف تبطلون بعض التأويلات وتصححون البعض؟ تأويل المتكلمين المخالف لأهل الحديث باطل
والمعارضة لا تورد عند الدعوى ، وإنما تورد بعد الأدلة .
وأيضا مما يبين عدم ورود هذه الأسولة : السؤال الأول ، وهو منع الاختلاف بين أهل الحديث وأهل الكلام في التأويل ، فإن المناظرة كانت مع من يدعي أن الحق مع أهل التأويل دون من خالفهم ، فإن لم يكن لهذا وجود كان ردا على من نصر أهل الكلام المخالفين لأهل الحديث ، لا على من نصر أهل الحديث .
وأيضا فإنه عقب هذا الكلام قد قلنا : "إن أمهات المسائل التي خالف فيها متأخرو المتكلمين لأهل الحديث ثلاث : مسألة وصف الله بالعلو ، ومسألة القرآن ، ومسألة تأويل الصفات" . وهذا تعيين لهذه المسائل الثلاثة المختلف فيها ، والخلاف في هذه المسائل أشهر من أن يحتاج إلى نقل .
فإن قيل . لا نسلم أن أحدا خالف أحدا في هذه المسائل ، بل كل تأويل فيها للمتكلمين فإن أهل الحديث لم ينفوه ، بل سكتوا عنه . [ ص: 69 ]
قيل : النقل المتواتر والعلم الاضطراري وما مهدته الكتب المصنفة دليل على وقوع الخلاف في أعيان هذه المسائل وأدلتها السمعية .
وأيضا فإن الفاضل المباحث -أيده الله- قد حكى في مباحثه هذه عن : "أما من القاضي عياض من دهماء المحدثين والفقهاء وبعض المتكلمين منهم فيتأول "في السماء" بمعنى على ، وأما دهماء النظار والمتكلمين وأصحاب الإثبات [والتنزيه] المحيلين أن يختص به جهة أو يحيط به حد ، فلهم فيه تأويلات بحسب مقتضاها" . قال منهم بإثبات جهة "فوق" له تعالى من غير تحديد ولا تكييف
ومعلوم بأن هذا تصريح بأن لهؤلاء النفاة تأويلات يخالف فيها المثبتون لكونه فوق العرش ، وهذه التأويلات مما قضينا بإبطالها ، فكيف يتوجه مع هذا أن يقال : ليس للمتكلمين تأويل يخالفون به أهل الحديث؟
ونحن لم نقل : إن كل تأويل باطل ، حتى ينقض علينا بصورة ، بل قلنا : كل تأويل للمتكلمين يخالفهم فيه أهل الحديث فهو باطل .
ومعلوم أن هذا تكفي فيه صورة واحدة ، وهذه صورة قد سلمتموها وحكيتموها .
وهب أنهم أجمعوا على تأويلها -وإن كنا سنتكلم على هذا إن شاء الله- لكن مضمون هذه العبارة أن . [ ص: 70 ] التأويل الذي أثبته المتكلمون ونفاه أهل الحديث باطل
وأيضا فقد قلنا في عقب هذا : "إن . وقلتم : هذا حق صريح وحكم صحيح ، فهذا التأويل الذي يفضي إلى التعطيل معلوم أنه قد وجد ، فإن كثيرا من المتأولين ينفي الصفات كلها وأحكامها ، وبعضهم يثبت أحكامها ، وبعضهم يثبت أحوالها ، وبعضهم يثبت بعضها دون بعض ، فهؤلاء معطلة الصفات أو بعضها ، وأهل الحديث يخالفونهم في هذا . مذهب السلف وأهل الحديث أنها تصان عن تأويل يفضي إلى تعطيل ، وتكييف يفضي إلى تمثيل"
ولم نرد بالتعطيل تعطيل اللفظ عن معنى ، فإن التأويل لا يتصور أن يفضي إلى هذا التعطيل ، لأن المتأول لا بد أن يحمله على معنى ما ، فلا يكون قد عطله عن جميع المعاني ، وإنما عطل الصفة التي دل عليها النص ، وعطله عن معناه المفضول المفهوم . ومعلوم أن التأويل المفضي إلى هذا التعطيل قد وقع فيه كثير من المتكلمين نفاة الصفات أو بعضها ، ومعلوم أن هذا التأويل ينكره أهل الحديث ، وكل من وافقهم من المتكلمين على إثبات صفة فإنه ينكر التأويل الذي يفضي إلى تعطيلها . فكيف يصح بعد هذا أن يقال بالموجب إلا بالموافقة؟
نعم ، لو قيل : بعض هذه التأويلات التي ينفونها نقول بصحتها ، لكان هذا سؤالا متوجها ، وهو غير السؤال المذكور ، ومع هذا فليس هذا موضعه ، وإنما موضعه الأدلة . [ ص: 71 ]
ثم إنا قد فرضنا بأن الدعوى عامة ، وإنما أقمنا الدليل على بطلان التأويل في صفة اليد ، وهي بعض صورة الخلاف ، لأن هذا حكاية مناظرة جرت ، وكان الكلام في صفة اليد نموذجا يحتذى عليه غيره من الكلام في غيرها .
وأيضا فإنا قلنا : "إذا بحث الإنسان وجد ما يقول المتكلمون من التأويل الذي يخالفون به أهل الحديث كله باطلا" . فكان موجبه القول بالموجب : إنا لا نسلم أن المعتبرين من المحدثين منعوا تأويل المعتبرين من المتكلمين ، وليس هذا المنع مطابقا للدعوى ، فإنا لم نقل : إن تأويل المعتبرين من المتكلمين الذين يخالفون به المعتبرين من المحدثين باطل ، وإنما قلنا : "تأويل المتكلمين المخالف" ، ومعلوم أن المتكلمين اسم عام ، فتأويلهم المخالف لأهل الحديث يدخل فيه تأويل كل متكلم من الجهمية والنجارية والمعتزلة ، بل ومن الفلاسفة والقرامطة الباطنية والإسماعيلية ، فما الذي أوجب أن يحمل هذا اللفظ العام على تأويل خاص من تأويلات المتكلمين؟ من غير أن يكون في اللفظ ما يدل عليه ، بل تمام الكلام يصرح بالعموم حيث قلنا : "أمهات المسائل التي خالف فيها متأخرو المتكلمين -ممن ينتحل مذهب لأهل الحديث ثلاثة" . الأشعري-
فهذا يدل على أن المتقدمين من المتكلمين خالفوا أهل الحديث في أكثر من ذلك ، وهذا هو الواقع ، فكيف يكون المنع المتوجه "لا نسلم أن معتبري المتكلمين خالفوا معتبري أهل الحديث"؟ وهل هذا إلا بمنزلة أن يقال : ما خالف به الفلاسفة الأنبياء فهو باطل ، فيقال : لا نسلم أن فضلاء الفلاسفة خالفوا الأنبياء; أو يقال : ما خالف به [ ص: 72 ] المتكلمون للكتاب والسنة فهو باطل ، فيقال : لا نسلم أن معتبريهم خالفوا الكتاب والسنة; أو يقال : ما خالف فيه بنو آدم للأنبياء فهو ضلال ، فيقال : لا نسلم أن معتبري الآدميين خالفوا الأنبياء; أو يقال : كفار مكة من قريش والعرب في النار ، فيقال : لا نسلم أن المعتبرين من أهل مكة أو قريش والعرب كفروا .