فأخبر سبحانه أن الفرار من الموت أو القتل لا ينفع ، بل لا بد أن يموت العبد ، وما أكثر من يفر فيموت أو يقتل ، وما أكثر من ثبت فلا يقتل .
ثم قال : ولو عشتم لم تمتعوا إلا قليلا ثم تموتوا . ثم أخبر أنه لا أحد يعصمهم من الله إن أراد أن يرحمهم أو يعذبهم ، فالفرار من طاعته لا ينجيهم . وأخبر أنه ليس لهم من دون الله ولي ولا نصير .
وقد بين في كتابه أن ، فقال : ما يوجبه الجبن من الفرار هو من الكبائر الموجبة للنار إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار [ ص: 317 ] ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير .
وأخبر أن الذين يخافون العدو خوفا منعهم من الجهاد منافقون ، فقال : ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون .
وفي الصحيحين . عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عد الكبائر; فذكر الشرك بالله ، وعقوق الوالدين ، والسحر ، واليمين الغموس ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات . وذكر منها الفرار من الزحف في الصفين
[و] عن رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : أبي هريرة . "شر ما في المرء : شح هالع ، أو جبن خالع"
وأما دلالة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك فمن وجوه كثيرة :
منها : أن المسلمين يوم بدر كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ، وكان عدوهم بقدرهم ثلاث مرات أو أكثر ، وبدر أفضل الغزوات وأعظمها .
فعلم أن القوم يشرع لهم أن يقاتلوا من يزيدون على ضعفهم ، ولا فرق في ذلك بين الواحد والعدد ، فمقاتلة الواحد للثلاثة كمقاتلة الثلاثة للعشرة . [ ص: 318 ]
وأيضا أحد كانوا نحوا من ربع العدو; فإن العدو كانوا ثلاثة آلاف أو نحوها ، وكان المسلمون نحو السبعمائة أو قريبا منها . فالمسلمون يوم
وأيضا ، فإن العدو كان أكثر من عشرة آلاف ، وهم الأحزاب الذين تحزبوا عليهم من فالمسلمون يوم الخندق كان العدو بقدرهم مرات قريش وحلفائها وأحزابها الذين كانوا حول مكة وغطفان وأهل نجد ، واليهود الذين نقضوا العهد وهم بنو قريظة جيران أهل المدينة ، وكان المسلمون بالمدينة دون الألفين .
وأيضا فقد كان الرجل وحده على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يحمل على العدو بمرأى من النبي - صلى الله عليه وسلم - وينغمس فيهم ، فيقاتل حتى يقتل . وهذا كان مشهورا بين المسلمين على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه .
وقد روى في صحيحه عن البخاري قال : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة رهط عينا ، وأمر عليهم أبي هريرة عاصم بن ثابت الأنصاري جد عاصم بن عمر بن الخطاب ، فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهدأة بين عسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان ، فنهدوا إليهم بقريب من مائة رجل رام -وفي رواية : مائتي رجل- فاقتفوا آثارهم ، حتى وجدوا مأكلهم التمر في منزل نزلوه فقالوا [هذا] تمر يثرب .
فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجأوا إلى موضع -وفي رواية إلى فدفد ، أي إلى مكان مرتفع- فأحاط بهم القوم ، فقالوا لهم : [ ص: 319 ]
انزلوا فأعطوا أيديكم ولكم العهد والميثاق ، لا يقتل منكم أحد . فقال عاصم بن ثابت : أيها القوم! أما أنا فلا أنزل على ذمة كافر ، اللهم أخبر عنا نبيك - صلى الله عليه وسلم - . فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما في سبعة .
ونزل إليهم ثلاثة نفر على العهد والميثاق ، منهم خبيب وزيد بن الدثنة ، ورجل آخر . فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها .
قال الرجل الثالث : هذا أول الغدر ، والله لا أصحبكم ، لي بهؤلاء أسوة; يريد القتلى . فجرروه وعالجوه; فأبى أن يصحبهم ، فقتلوه ، وانطلقوا بخبيب وزيد بن الدثنة حتى باعوهما بمكة بعد وقعة بدر .
فابتاع بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف خبيبا ، وكان خبيب هو قتل الحارث بن عمرو يوم بدر . ولبث خبيب عندهم أسيرا حتى أجمعوا على قتله . فاستعار من بعض بنات الحارث موسى يستحد بها ، فأعارته فدرج بني لها وهي غافلة حتى أتاه [قالت : فوجدته] مجلسه على فخذه والموسى بيده; قالت : ففزعت فزعة عرفها خبيب . فقال : أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك . قالت : والله ما رأيت أسيرا خيرا من خبيب ، فوالله لقد وجدته يوما يأكل قطفا من عنب في يده ، وإنه لموثق في الحديد وما بمكة من ثمر .
وكانت تقول : إنه لرزق رزقه الله خبيبا . فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل ، قال لهم خبيب : دعوني أصلي ركعتين . فتركوه فركع ركعتين . فقال . والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزع لزدت ، اللهم أحصهم عددا ، واقتلهم بددا ، ولا تبق منهم أحدا . قال :
فلست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان لله مصرعي [ ص: 320 ] وذلك في ذات الإله وإن يشأ
يبارك على أوصال شلو ممزع
فهؤلاء عشرة أنفس قاتلوا أولئك المئة أو المئتين ، ولم يستأسروا لهم حتى قتلوا منهم سبعة . ثم لما استأسروا الثلاثة امتنع الواحد من اتباعهم حتى قتلوه . وهؤلاء من فضلاء المؤمنين وخيارهم .
، وعاصم هذا هو جد عاصم بن عمر ; فإن وعاصم بن عمر جد عمر بن عبد العزيز كان قد نهى الناس أن يشوب أحد اللبن بالماء للبيع ، فبينما عمر بن الخطاب ذات ليلة يعس إذ سمع امرأة تقول لأخرى : قومي فشوبي اللبن . فقالت : إن أمير المؤمنين قد نهى عن ذلك . فقالت : وما يدري أمير المؤمنين؟ فقالت : لا والله [ ص: 321 ] لا نطيعه في العلانية ونعصيه في السر . فعلم عمر على [الباب] ، فلما أصبح سأل عن أهل ذلك البيت ، فإذا به أهل بيت عمر عاصم هذا الأمير المستشهد ، والمرأة المطيعة ابنته ، فخطبها وتزوجها .
وقد روي أنه زوجها ابنه عاصما هذا ، وإن كان قبل ذلك تزوج ابنة عمر عاصم هذا فولدت له عاصما ابنه ، وصدق من ذرية عمر بن عبد العزيز عاصم .