وفيها قتل المستورد بن علفة الخارجي
فيما ذكر هشام بن الكلبي ، وقال قوم : قتل في سنة اثنتين وأربعين .
ذكر سبب قتله
قد ذكرنا اجتماع بقايا الخوارج الذين كانوا ارتثوا يوم النهر ، واعتمادهم على الثلاثة الذين هذا أحدهم ، ومبايعتهم المستورد ، وأن ذلك كان في جمادى ، وأنهم اجتمعوا في منزل حيان بن ظبيان على الخروج في شعبان ، فبلغ خبرهم إلى ، فقال لصاحب الشرطة : سر بالشرطة حتى تحيط بدار المغيرة بن شعبة حيان بن ظبيان فأتني به ، فأتاه ومعه نحو من عشرين من أصحابه ، فانطلق به إلى ، فقال لهم : ما حملكم على ما أردتم من شق عصا المسلمين ؟ قالوا : ما أردنا من ذلك من شيء ، [ ص: 202 ] قال : بل بلغني وصدق ذلك عندي اجتماعكم ، فقالوا : أما اجتماعنا فإن المغيرة بن شعبة حيان بن ظبيان أقرأنا للقرآن فنحن نجتمع في منزله فنقرأ القرآن عليه ، قال : اذهبوا بهم إلى السجن ، فلم يزالوا فيه نحوا من سنة .
وسمع إخوانهم بأخذهم ، فخرج المستورد فنزل دارا بالحيرة ، وكان إخوانه يختلفون إليه ويتجهزون ، فلما كثر اختلاف أصحابه إليه قال : تحولوا بنا عن هذا المكان فإني لا آمن أن يطلع عليكم ، فإنهم لفي ذلك [يقول بعضهم لبعض : نأتي مكان كذا وكذا ، ويقول بعضهم : نأتي مكان كذا وكذا ] ، إذ أشرف عليهم حجار بن أبجر وإذا بفارسين قد أقبلا فدخلا الدار ، ثم جاء آخر ، ثم جاء آخر ، وكان خروجهم قد اقترب ، فقال حجار لصاحب الدار : ويحك ما هذه الخيل الذي أراها تدخل هذه الدار ، فقال : لا أدري إلا أن الرجال يختلفون إلى هذه الدار رجالا وفرسانا ، فركب حجار حتى انتهى إلى بابهم ، وإذا عليه رجل منهم ، فإذا أتى إنسان استأذن ، فقال له : من أنت ؟ قال : حجار بن أبجر ، فدخل يستأذن له ، فدخل خلفه فإذا الرجل يقول لهم : قد جاء حجار فقالوا : والله ما جاء لخير ، فقال حجار : السلام عليكم ثم انصرف ، فقال بعضهم لبعض : أدركوه فاحبسوه فإنه مؤذن بكم ، فخرج منهم جماعة إليه ، فإذا هو قد ركب فرسه ، فقالوا : لم يأت لشيء يروعكم ، قالوا : أفتؤمننا من الإذن بنا ؟ قال : أنتم آمنون ، ثم تفرقوا عن ذلك المكان .
وبلغ خبرهم المغيرة فحذر الناس أن يؤويهم ، وبعث المستورد إلى أصحابه اخرجوا ، فاتعدوا سورا ، وخرجوا إليها متقطعين من أربعة وخمسة . فبلغ الخبر المغيرة ، فبعث معقل بن قيس في ثلاثة آلاف ، وقال له : يا معقل إني قد بعثت معك فرسان أهل المصر ، ثم أمرت بهم فانتخبوا انتخابا ، فسر إلى هذه العصابة المارقة الذين فارقوا جماعتنا ، وشهدوا علينا بالكفر ، فادعهم إلى التوبة وإلى الدخول في الجماعة ، فإن فعلوا فاقبل منهم ، واكفف عنهم ، وإن لم يفعلوا فناجزهم واستعن بالله عليهم ، فقال له : هل بلغك - أصلحك الله - أين منزل القوم ؟ قال : نعم ، كتب إلي سماك بن عبيد [ ص: 203 ] القيسي ، وكان عاملا له على المدائن ، يخبرني أنهم ارتحلوا حتى نزلوا بهرسير ، وأنهم أرادوا أن يعبروا إلى المدينة العتيقة التي بها منازل كسرى ، فمنعهم سماك أن يجوزوا ، فنزلوا بمدينة بهرسير مقيمين ، فاخرجوا إليهم ، وانكمش في آثارهم ولا تدعهم والإقامة في بلد أكثر من الساعة التي تدعوهم فيها ، فإن قبلوا وإلا فناهضهم ، فإنهم لن يقيموا ببلد يومين إلا أفسدوا كل من خالطهم ، فخرج من يومه فبات بسورا ، فبعث المغيرة مولاه ورادا إلى المسجد فقام فقال : أيها الناس ، إن معقل قد سار إلى هذه العصبة المارقة وهو بائت الليلة بسورا ، فلا يتخلف عنه أحد من أصحابه ألا وإن الأمير يخرج على كل رجل من المسلمين ويعزم عليهم أن يبيتوابالكوفة ، وأيما رجل من هذا البعث وجدناه بعد يومنا هذا بالكوفة فقد أحل بنفسه .
قال عبد الرحمن بن جندب ، [عن عبد الله بن عقبة ] الغنوي ، [قال ] : كنت فيمن خرج مع المستورد ، وكنت أحدث رجل منهم ، فخرجنا حتى أتينا الصراة ، فأقمنا بها حتى تتامت جماعتنا ، ثم خرجنا حتى انتهينا إلى بهرسير ، فدخلناها ، ونذر بنا سماك بن عبيد العبسي ، وكان على المدينة العتيقة ، فلما ذهبنا لنعبر الجسر إليهم قاتلنا عليه ، ثم قطعه علينا ، فأقمنا ببهرسير . قال : فدعاني المستورد فقال لي : أتكتب يا ابن أخي ؟ قلت : نعم ، فدعا برق ودواة ، وقال : اكتب : من عبد الله المستورد أمير المؤمنين إلى سماك بن عبيد ، أما بعد . فإنا نقمنا على قومنا الجور في الأحكام ، وتعطيل الحدود والاستئثار بالفيء ، وإنا ندعوك إلى كتاب الله ، وسنة نبيه وولاية أبي بكر ، والبراءة من وعمر علي ، لإحداثهما في الدين ، وتركهما حكم الكتاب ، فإن تقبل فقد أدركت رشدك ، وإن لا تقبل فقد أبلغنا في الإعذار إليك ، وقد آذناك بحرب ، ونبذنا إليك على سواء ، إن الله لا يحب الخائنين . وعثمان
[ ص: 204 ] ثم قال [المستورد ] : انطلق بهذا الكتاب إلى سماك ، فادفعه إليه واحفظ ما يقول لك ، والقني .
فقلت له : أصلحك الله ، لو أمرتني أن أستعرض دجلة فألقي نفسي فيها ما عصيتك ، ولكن ما آمن أن يتعلق بي سماك فيحبسني عنك ، فإذا أنا قد فاتني ما أرجو من الجهاد . فتبسم وقال : يا ابن أخي ، إنما أنت رسول والرسول لا يعرض له ولو خشيت ذلك عليك لم أبعثك . فخرجت حتى عبرت إليهم في معبر ، فقالوا : من أنت ؟ فقلت : رسول أمير المؤمنين المستورد ، فلما وصلت إلى سماك أريته الكتاب ، قال : اذهب إلى صاحبك فقل له : اتق الله وارجع عن رأيك هذا ، وادخل في جماعة المسلمين ، ثم قال لأصحابه : إنهم خلوا بهذا . فأخذوا يقرءون عليه القرآن ، ويتخشعون ويتباكون ، فظن أنهم على شيء ، ثم قال : انطلق يا بني إلى صاحبك ، إنما تندم لو قد اكتنفتكم الخيل ، وأشرعت في صدوركم الرماح ، هناك تمنى أنك كنت في بيت آبائك .
فانصرفت من عنده إلى صاحبي ، فأخبرته ، فقال : إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم .
فمكثنا يومين أو ثلاثة ، فاستبان لهم مسير معقل بن قيس إلينا ، فجمعنا المستورد وقال : أشيروا علي ، فقال بعضنا : والله ما خرجنا نريد إلا الله وقد جاءونا فأين نذهب عنهم . وقالت طائفة : بل نعتزل ونتنحى ، وندعو الناس .
فقال : يا معشر المسلمين ، إني والله ما خرجت ألتمس الدنيا ولا البقاء ، وما أحب أنها لي بحذافيرها ، وما أحب إلا التماس الشهادة ، وإني قد نظرت فيما استشرتكم به فرأيت ألا أقيم لهم حتى يقدمون علي وهم جامون ، ولكني رأيت أن أسير حتى [ ص: 205 ] أمعن فإنهم إذا بلغهم ذلك خرجوا في طلبنا فتقطعوا وتبددوا ، فعلى ذلك الحال ينبغي لنا أن نقاتلهم ، فاخرجوا بنا على اسم الله .
فخرجنا فمضينا على شاطئ دجلة حتى انتهينا إلى جرجرايا ، فعبرنا دجلة ، فمضينا كما نحن في أرض جوخى حتى بلغنا المذار ، فأقمنا .
وقال عبد الله بن الحارث : كنت في الذين خرجوا مع معقل حين خرج ، وكان أول منزل نزلناه سورا .
[قال ] : فمكثنا به يوما حتى اجتمع إليه جل أصحابه ، ثم خرجنا مسرعين مبادرين لعدونا أن يفوتنا ، ثم سرنا حتى دنونا من المدائن ، فاستقبلنا الناس يخبروننا أنهم قد ارتحلوا ، فشق ذلك علينا وأيقنا بالعناء [وطول الطلب ] .
وجاء معقل حتى نزل على باب مدينة بهرسير ، فخرج إليه سماك فسلم عليه ، وبعث إليه ما يصلح الجند ، فأقام ثلاثا . ثم جمع أصحابه وقال : إن هؤلاء المارقة إنما خرجوا على وجوههم إرادة أن تتعجلوا في آثارهم [فتقطعوا ] وتبددوا ، وإنه ليس شيء يدخل عليكم من ذلك إلا وقد يدخل عليهم مثله ، فخرج بنا من المدائن ، فقدم بين يديه أبو الرواغ في ثلاثمائة فارس ، واتبع أثره فلحقهم أبو الرواغ بالمذار مقيمين ، فاستشار أصحابه في قتالهم قبل قدوم معقل عليه ، فقال بعضهم : أقدم بنا ، وقال آخرون : حتى يأتينا أميرنا ، فبات أصحاب أبي الرواغ يتحارسون ، فخرج القوم عليهم وهم عدتهم هؤلاء ثلاثمائة ، وهؤلاء ثلاثمائة ، فلما اقتربوا شدوا على أصحاب أبي الرواغ ، فانهزموا فصاح أبو الرواغ : يا فرسان السوء ، قبحكم الله ، الكرة الكرة ، فحمل [ ص: 206 ] وحمل أصحابه ثم انكشفوا ، فقال أبو الرواغ : ثكلتكم أمهاتكم ، انصرفوا بنا فلنكر قريبا من القوم حتى يأتينا أميرنا ، فما زالوا يطاردونهم وينحازأبو الرواغ وأصحابه .
وبلغ الخبر إلى معقل ، فأسرع في نحو من سبعمائة فارس من أهل القوة والشجاعة ، فلما وصل شدوا عليه ، فانجفل عامة أصحابه فنزل وقال : الأرض الأرض ، ونزل معه أبو الرواغ ونحو من مائتي فارس ، فلما غشيهم المستورد وأصحابه استقبلوهم بالرماح والسيوف ، فانجفلت خيل معقل ثم كرت ، وأقبل شريك بن الأعور مددا لمعقل ، فرأى المستورد ما لا يطيق ، فذهب بأصحابه في الليل ، فعادوا إلى جرجرايا فتبعهم أبو الرواغ فقاتلهم قتالا شديدا وظنوا أن معقلا يأتي بعده ، فذهبوا حتى قطعوا دجلة ، وسار أبو الرواغ في آثارهم ، وجاء معقل متبعا آثار أبو الرواغ ، فانصرفوا إلى ساباط ، ثم اقتتلوا ، فهلك الخوارج ، المستورد : يا معقل ابرز لي ، فبرز له فأشرع المستورد الرمح في صدر معقل حتى خرج السنان من ظهره ، وضربه وصاح معقل بالسيف على رأسه فخرا ميتين وتبدد من بقي .