الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قصة ابن أم الحكم مع الأعرابي

وجرت لعبد الرحمن ابن أم الحكم قصة عجيبة أخبرنا بها محمد بن ناصر الحافظ ، قال : أخبرنا المبارك بن عبد الجبار ، وأخبرتنا شهدة بنت أحمد الكاتبة ، قالت : أخبرنا جعفر بن أحمد السراج ، قال : أخبرنا أبو محمد الجوهري ، قال : أخبرنا أبو عمر بن حيوية ، قال : حدثنا محمد بن خلف ، قال : حدثني محمد بن عبد الرحمن القرشي ، قال : حدثنا محمد بن عبيد قال : حدثنا أبو مخنف ، عن هشام بن عروة ، قال :

أذن معاوية بن أبي سفيان يوما ، فكان فيمن دخل عليه فتى من بني عذرة ، فلما أخذ الناس مجالسهم قام الفتى العذري بين السماطين ثم أنشأ يقول :


معاوي يا ذا الفضل والحكم والعقل وذا البر والإحسان والجود والبذل     أتيتك لما ضاق في الأرض مسلكي
وأنكرت مما قد أصبت به عقلي

[ ص: 293 ]

ففرج كلاك الله عني فإنني     لقيت الذي لم يلقه أحد قبلي
وخذ لي هداك الله حقي من الذي     رماني بسهم كان أهونه قتلي
وكنت أرجي عدله إن أتيته     فأكثر تردادي مع الحبس والكبل
فطلقتها من جهد ما قد أصابني     فهذا أمير المؤمنين من العذل



فقال معاوية : ادن بارك الله عليك ، ما خطبك ؟ فقال : أطال الله بقاء أمير المؤمنين ، إنني رجل من بني عذرة ، تزوجت ابنة عم لي ، وكانت لي صرمة من إبل وشويهات ، فأنفقت ذلك عليها ، فلما أصابتني نائبة الزمان وحادثات الدهر رغب عني أبوها ، وكانت جارية فيها الحياء والكرم ، فكرهت محالفة أبيها ، فأتيت عاملك ابن أم الحكم فذكرت ذلك له ، وبلغه جمالها ، فأعطى أباها عشرة آلاف درهم وتزوجها وأخذني فحبسني وضيق علي ، فلما أصابني مس الحديد وألم العذاب طلقتها ، وقد أتيتك يا أمير المؤمنين وأنت غياث المحروب وسند المسلوب ، فهل من فرج ، ثم بكى وقال في بكائه :


في القلب مني نار والنار فيها شرار     والجسم مني نحيل واللون فيه اصفرار
والعين تبكي بشجو ودمعها مدرار     والحب داء عسير فيه الطبيب يحار
حملت منه عظيما فما عليه اصطبار     فليس ليلي بليل ولا نهاري نهار



فرق له معاوية وكتب له إلى ابن أم الحكم كتابا غليظا ، وكتب في آخره يقول :


ركبت أمرا عظيما لست أعرفه     أستغفر الله من جور امرئ زان
قد كنت تشبه صوفيا له كتب     من الفرائض أو آثار فرقان
حتى أتاني الفتى العذري منتحبا     يشكو إلي بحق غير بهتان
أعطى الإله عهودا لا أجيش بها     أو لا فبرئت من دين وإيمان
إن أنت راجعتني فيما كتبت به     لأجعلنك لحما عند عقبان
طلق سعاد وفارقها بمجتمع     وأشهد على ذاك نصرا وابن ظبيان

[ ص: 294 ]

فما سمعت كما بلغت من عجب     ولا فعالك حقا فعل فتيان



فلما ورد كتاب معاوية على ابن أم الحكم تنفس الصعداء وقال : وددت أن أمير المؤمنين خلى بيني وبينها سنة ثم عرضني على السيف ، وجعل يؤامر نفسه في طلاقها فلا يقدر ، فلما أزعجه الوفد طلقها ، ثم قال : يا سعاد ، اخرجي ، فخرجت شكلة غنجة ، ذات هيئة وجمال ، فلما رآها الوفد قالوا : ما تصلح هذه إلا لأمير المؤمنين لا لأعرابي ، وكتب جواب كتابه يقول :


لا تحنثن أمير المؤمنين فقد     أوفى بعهدك في رفق وإحسان
وما ركبت حراما حيث أعجبني     فكيف سميت باسم الخائن الزان
وسوف يأتيك شمس لا خفاء بها     أبهى البرية من إنس ومن جان
حوراء يقصر عنها الوصف إن وصفت     أقول ذلك في سر وإعلان



فلما ورد الكتاب على معاوية ، قال : إن كانت أعطيت حسن النعمة على هذه الصفة فهي أكمل البرية ، فاستنطقها فإذا هي أحسن الناس كلاما وأكملهم شكلا ودلا ، فقال : يا أعرابي فهل من سلو عنها بأفضل الرغبة ، قال : نعم إذا فرقت بين رأسي وجسدي ، ثم أنشأ يقول :


لا تجعلني والأمثال تضرب بي     كالمستغيث من الرمضاء بالنار
اردد سعاد على حيران مكتئب     يمسي ويصبح في هم وتذكار
قد شفه قلق ما مثله قلق     وأسعر القلب منه أي إسعار
والله والله لا أنسى محبتها     حتى أغيب في رمس وأحجار
كيف السلو وقد هام الفؤاد بها     وأصبح القلب عنها غير صبار



قال : فغضب معاوية غضبا شديدا ، ثم قال لها : اختاري إن شئت أنا ، وإن شئت ابن أم الحكم ، وإن شئت الأعرابي . فأنشأت سعاد وارتجزت تقول :


هذا وإن أصبح في الخمار     وكان في نقص من اليسار
أكثر عندي من أبي وجاري     وصاحب الدرهم والدينار




أخشى إذا غدرت حر النار

[ ص: 295 ] فقال معاوية : خذها لا بارك الله لك فيها . فارتجز الأعرابي يقول :


خلوا عن الطريق للأعرابي     ألم ترقوا ويحكم لما بي



قال : فضحك معاوية وأمر له بعشرة آلاف درهم وناقة ووطاء . وأمر بها فأدخلت في بعض قصوره حتى انقضت عدتها من ابن أم الحكم ، ثم أمر بدفعها إلى الأعرابي .

التالي السابق


الخدمات العلمية