الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[دخولهم البصرة والحرب بينهم وبين عثمان بن حنيف ]

وحدثنا سيف ، عن محمد وطلحة ، قالا: لما كان الناس بفناء البصرة لقيهم عمير بن عبد الله التميمي ، فقال: يا أم المؤمنين ، أنشدك الله أن تقدمي اليوم على قوم لم تراسلي منهم أحدا ، [فأرسلت ابن عامر ] وكتبت إلى رجال من أهل البصرة وإلى الأحنف بن قيس ، فدعا عثمان بن حنيف عمران بن الحصين وألزه بأبي الأسود [ ص: 84 ] الدؤلي ، فقال: انطلقا إلى هذه المرأة فاعلما علمها وعلم من معها . فخرجا فانتهيا إليها ، فاستأذنا فأذن لهما ، فقالا: إن أميرنا بعثنا إليك يسألك عن مسيرك ، فهل أنت مخبرتنا؟ فقالت: والله ما مثلي يسير بالأمر المكتوم ، إن الغوغاء من أهل الأمصار [ونزاع القبائل] غزوا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدثوا فيه الأحداث وآووا فيه المحدثين ، فاستحلوا الدم الحرام فسفكوه وانتهبوا ، فخرجت في المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء القوم وما ينبغي لهم أن يأتوا في إصلاح هذا .

فخرجا من عندها فأتيا طلحة ، فقالا: ما أقدمك؟ قال: الطلب بدم عثمان ، قالا: ألم تبايع عليا ؟ قال: بلى ، واللج على عنقي ، وما أستقيل عليا إن هو لم يحل بيننا وبين قتلة عثمان ، ثم أتيا الزبير فقالا له مثل ما قالا لطلحة ، فقال مثل ذلك . فنادى عثمان بن حنيف في الناس وأمرهم بلبس السلاح ، وقام رجل فقال للناس: يا أيها الناس ، إن هؤلاء القوم إن كانوا جاءوا خائفين فقد جاءوا من المكان الذي يأمن به الطير ، وإن كانوا جاءوا يطلبون بدم عثمان فما نحن بقتلة عثمان . أطيعوني ، وردوهم . فقال الأسود بن سريع: إنما فزعوا إلينا ليستعينوا بنا على قتلة عثمان ، فحصبه الناس ، فتكلم طلحة فدعا إلى الطلب بدم عثمان ، فتحاصب الناس ، فتكلمت عائشة وقالت: ينبغي أخذ قتلة عثمان ، فتحاصب القوم .

وأقبل حكيم بن جبلة ، فأنشب القتال ، وأصحاب عائشة كافون إلا ما دافعوا عن أنفسهم ، فغدا حكيم بن جبلة يبربر وفي يده الرمح ، فقال له رجل من عبد القيس : من الذي تسب؟ قال: عائشة ، قال: يا ابن الخبيثة ، ألأم المؤمنين تقول هذا ، فوضع حكيم السنان بين ثدييه فقتله . ثم اقتتلوا قتالا شديدا ، ومنادي عائشة يناشدهم ويدعوهم إلى الكف فيأبون ، فقالت عائشة: لا تقتلوا إلا من قاتلكم ، ونادوا: من لم يكن من قتلة عثمان فليكفف عنا ، فإنا لا نريد إلا قتلة عثمان ، فأنشب حكيم القتال ، فاقتتلوا أشد قتال . [ ص: 85 ] وكانت الوقعة لخمس ليال بقين من ربيع الآخرة سنة ست وثلاثين .

فلما نزل علي رضي الله عنه على الثعلبية أتاه الخبر بما لقي عثمان بن حنيف [ثم أتاه ما لقي حكيم بن جبلة ، ولما انتهوا إلى ذي قار انتهى إليه فيها عثمان بن حنيف ] وليس في وجهه شعرة . وأتاه الخبر بما لقيت ربيعة ، وخروج عبد القيس ، وخرج إلى علي خلق كثير من أهل الكوفة ، فدعا علي القعقاع بن عمرو فأرسله إلى أهل البصرة ، وقال: الق هذين الرجلين فادعهما إلى الألفة والجماعة ، وعظم عليهما الفرقة .

فخرج القعقاع حتى أتى البصرة ، فبدأ بعائشة فسلم عليها ، فقال: أي أماه ، ما أشخصك وما أقدمك على هذه البلدة؟ قالت: أي بني ، إصلاح بين الناس ، قال: فابعثي إلى طلحة والزبير حتى تسمعي كلامي وكلامهما ، فبعثت إليهما ، فجاءا ، فقال: إني سألت أم المؤمنين ما أشخصها فقالت: الإصلاح بين الناس ، فما تقولان أنتما ، أمتابعين أم مخالفين؟ قالا: متابعين ، قال: فأخبراني ما وجه هذا الإصلاح ، فو الله لئن عرفناه لنصلحن ، ولئن أنكرناه لا يصلح ، قالا: قتلة عثمان ، فإن هذا إن ترك كان تركا للقرآن ، وإن أعمل به كان إحياء للقرآن ، فقال: قد قتلتما قتلة أمير المؤمنين من أهل البصرة ، قتلتم ستمائة إلا رجلا ، قالت أم المؤمنين: فتقول أنت ماذا؟ قال: أقول إن هذا الأمر دواؤه التسكين ، وإذا سكن اختلجوا ، فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خير ، ودرك بثأر هذا الرجل ، وسلامة لهذه الأمة ، وإن أنتم أبيتم إلا مكابرة هذا الأمر واعتسافه ، كانت علامة الشر ، فكونوا مفاتيح الخير ، فقالوا له: قد أحسنت فارجع ، فإن قدم علي وهو على مثل رأيك صلح هذا الأمر ، فرجع إلى علي ، فأخبره فأعجبه ذلك ، وأشرف القوم على الصلح ، وأقبلت وفود البصرة نحو علي . وجاءت وفود تميم وبكر ، فجمع علي الناس وقام ، فذكر إنعام الله تعالى على هذه الأمة بالاجتماع إلى أن قال: ثم حدث هذا الحدث الذي جره على هذه الأمة أقوام [ ص: 86 ] طلبوا [هذه] الدنيا ، وحسدوا من أفاءها الله عليه ، ألا وإني راحل غدا ، فارتحلوا ، ولا يرتحلن أحد أعان على عثمان بشيء ، وليغن السفهاء عني أنفسهم .

فاجتمع نفر ، منهم علباء بن الهيثم ، وعدي بن حاتم ، وسالم بن ثعلبة القيسي ، وشريح بن أوفى بن ضبيعة ، والأشتر ، في عدة ممن سار إلى عثمان ، ورضي مسير من سار ، وجاء معهم المصريون : ابن السوداء ، وخالد بن ملجم ، وتشاوروا ، [فقالوا]: ما الرأي؟ وهذا والله علي وهو أبصر [الناس] بكتاب الله ، [وأقرب] ممن يطلب قتلة عثمان ، وأقربهم إلى العمل بذلك ، وهو يقول ما يقول ، فكيف به إذا شام القوم وشاموه ، ورأوا قتلنا ، وقتلنا في كثرتهم ، إياكم والله ترادون . فقال الأشتر: أما طلحة والزبير فقد عرفنا أمرهما ، وأما علي فلم نعرف أمره حتى كان اليوم ، ورأي الناس فينا واحد ، وإن يصطلحوا على دمائنا فهلموا نتواثب على علي فنلحقه بعثمان ، فتعود فتنة يرضى منا فيها بالسكوت .

فقال عبد الله بن السوداء: بئس الرأي رأيت ، نحن نحو من ستمائة ، وهذا ابن الحنظلية وأصحابه في خمسة آلاف بالأسواق ، إلى أن يجدوا إلى قتالكم سبيلا .

وقال علباء بن الهيثم: انصرفوا بنا عنهم ودعوهم وارجعوا ، فتعلقوا ببلد من البلدان حتى يأتيكم فيه من تتقون به ، و [امتنعوا من الناس] . قال ابن السوداء: بئس ما رأيت ، ود والله الناس أنكم على جديلة ، ولم تكونوا مع أقوام براء ، ولو كان الذي [ ص: 87 ] تقول لتخطفكم كل شيء . وقال ابن السوداء: إذا التقى الناس غدا فانشبوا القتال ، ولا تدعوهم يفرغون للنظر ، فإذا من أنتم معه لا يجد بدا من أن يمتنع ، فيشغل الله عليا وطلحة والزبير ، ومن رأى رأيهم عما تكرهون فتفرقوا على مثل ذلك والناس لا يشعرون .

وأصبح علي رضي الله عنه على ظهر ، فمضى ومضى الناس ، وقام علي فخطبهم وقال: يا أيها الناس ، كفوا أيديكم وألسنتكم عن هؤلاء القوم فإنهم إخوانكم ، ومضى حتى أطل على القوم ، فبعث إليهم حكيم بن سلامة ، ومالك بن حبيب ، فقال: إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع بن عمرو فكفوا وأقرونا ننزل وننظر في هذا الأمر ، فقال له الأحنف بن قيس: إن قومنا بالبصرة يزعمون أنك إن ظهرت عليهم ستقتل رجالهم وتسبي نساءهم . فقال: ما مثلي يخاف هذا منه ، وهل يحل هذا إلا ممن تولى وكفر ، وهم قوم مسلمون ، فهل أنت مغن عني قومك؟ قال: نعم ، فاختر مني واحدة من اثنتين ، إما أن آتيك فأكون معك بنفسي ، وإما أن أكف عنك عشرة آلاف سيف .

فرجع إلى الناس فدعاهم إلى القعود وارتحل حتى نزل بحذاء القوم والناس لا 33 أيشكون في الصلح ، ومع عائشة ثلاثون ألفا ، ومع علي عشرون ألفا ، فلما نزل الناس واطمأنوا خرج علي وخرج طلحة والزبير ، فتواقفوا ، وتكلموا فيما اختلفوا فيه ، فلم يجدوا أمرا هو أمثل من الصلح ووضع الحرب ، فافترقوا عن موقفهم على ذلك ، ورجع علي إلى عسكره ، ورجع وطلحة والزبير إلى عسكرهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية