الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

فلما رأى عمرو بن العاص أن أمر العراق قد اشتد وخاف الهلاك ، قال [ ص: 121 ] لمعاوية: هل لك في أمر أعرضه عليك لا يزيدنا إلا اجتماعا ، ولا يزيدهم إلا فرقة ، قال: نعم قال: نرفع المصاحف ثم نقول: ما فيها حكم بيننا وبينكم فإن أبى بعضهم أن يقبل ، وقال بعضهم: بل نقبل ، فتكون فرقة تقع بينهم ، وإن قالوا: نقبل ، رفعنا هذا القتال إلى أجل .

فرفعوا المصاحف بالرماح وقالوا: هذا كتاب الله بيننا وبينكم ، من لثغور أهل الشام بعد أهل الشام ، ومن لثغور أهل العراق بعد أهل العراق . فلما رأى الناس المصاحف قد رفعت ، قالوا: نجيب إلى كتاب الله ونثيب إليه ، فقال علي رضي الله عنه: ما رفعوها إلا خديعة ، فقالوا له: ما يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله ، فقال: إني إنما أقاتلهم بحكم الكتاب ، فقال له مسعر بن فدكي التميمي ، وزيد بن حصين الطائي في عصابة معهما من القراء الذين صاروا خوارج بعد ذلك: يا علي ، أجب إلى كتاب الله إذا دعيت إليه ، وإلا ندفعك برمتك إلى القوم ، أو نفعل ما فعلنا بابن عفان ، إنه أبى علينا أن نعمل بما في كتاب الله فقتلناه ، والله لتفعلنها أو لنفعلنها بك .

قال: أما أنا فإن تطيعوني تقاتلوا ، وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم ، قالوا: فابعث إلى الأشتر فليأتك . فأرسل إليه ، فقال للرسول: إني قد رجوت أن يفتح الله لي فلا تعجلني . فارتفع الرهج من قبل الأشتر ، فقال القوم: ما نراك أمرته إلا بالقتال ، فقال: هل رأيتموني ساررته؟

قالوا: فابعث إليه فليأتك وإلا اعتزلناك فبعث إليه: أقبل إلي فإن الفتنة قد وقعت . فلما بلغه ذلك ، قال: ألرفع المصاحف؟ قال: نعم ، قال: أما والله لقد ظننت حين رفعت أنها ستوقع اختلافا وفرقة ، فقال له الرسول: أتحب أن تظفرها هنا وتسلم أمير المؤمنين إلى عدوه؟ فأقبل حتى انتهى إليهم ، فقال: يا أهل العراق ، يا أهل الذل والوهن ، أحين قهرتم القوم رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها ، وقد والله تركوا ما أمر الله به فيها ، أمهلوني فإني قد رأيت النصر ، فقالوا: إذا ندخل معك في خطيئتك ، فقال: خدعتم والله فانخدعتم ، فسبوه وسبهم . وقال الناس: قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا [وبينهم حكما] . [ ص: 122 ] فقال الأشعث : يا معاوية ، لأي شيء رفعتم هذه المصاحف؟ قال: لنرجع إلى أمر الله به ، تبعثون رجلا ترضون به ، ونبعث منا رجلا ، ثم نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه ، ثم نتبع ما اتفقا عليه .

فجاء الأشعث إلى علي فأخبره ، فقال الناس: قد رضينا ، فقال أهل الشام : فإنا قد اخترنا عمرو بن العاص ، فقال الأشعث وأولئك الذين صاروا خوارج بعد: فإنا رضينا بأبي موسى الأشعري ، فقال علي: إنكم عصيتموني في أول الأمر فلا تعصوني الآن ، إني لا أرى أن أولي أبا موسى ، فقال أولئك: إنا لا نرضى إلا به ، قال: فهذا ابن عباس ، قالوا: لا نريد إلا رجلا هو منك ومن معاوية سواء ، ليس إلى واحد منكما بأدنى منه إلى الآخر ، قال: فإني أجعل الأشتر ، قالوا: وهل سعر الأرض غير الأشتر ؟ قال: فاصنعوا ما شئتم .

فقال الأحنف لعلي رضي الله عنه: إنك قد رميت بحجر الأرض ، فإنه لا يصلح لهؤلاء القوم إلا رجل يدنو منهم حتى يصير في أكفهم ، ويبعد حتى يصير بمنزلة النجم منهم ، فإن أبيت أن تجعلني حكما فاجعلني ثانيا أو ثالثا فإنه لن يعقد عقدة إلا حللتها ، ولن يحل عقدة أعقدها إلا عقدت لك أخرى أحكم منها . فأبى الناس إلا أبا موسى . فكتبوا: "بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما تقاضى عليه علي أمير المؤمنين " . فقال عمرو: اكتب اسمه واسم أبيه ، وهو أميركم ، أما أميرنا فلا ، فقال الأحنف بن قيس: لا تمح اسم "إمارة المؤمنين" فإني أخاف إن محوتها لا ترجع إليك أبدا ، فأبى ذلك علي ، فقال له الأشعث : امح هذا الاسم برحه الله ، فمحي .

فقال علي: الله أكبر ، سنة بسنة ، والله إني لكاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية إذ قالوا: لست رسول الله ، ولا نشهد لك به ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك . فكتب: هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان قاضي علي على أهل الكوفة ومن معهم من شيعتهم من المؤمنين والمسلمين ، وقاضي معاوية على أهل الشام ومن كان معهم من المؤمنين والمسلمين ، إنا ننزل عند حكم الله وكتابه ، [ ص: 123 ] نحيي ما أحيا ، ونميت ما أمات ، فما وجد الحكمان في كتاب الله عز وجل - وهما أبو موسى الأشعري ، وعمرو بن العاص - وما لم يجدا في كتاب الله فالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة . وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين العهود والمواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأهلهما ، والأمة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه ، وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين كلتيهما عهد الله وميثاقه أنا على ما في هذه الصحيفة ، وأجلا القضاء إلى رمضان ، وإن أحبا أن يؤخرا ذلك أخراه على تراض منهما . وكتب في يوم الأربعاء لثلاث عشر خلت من صفر سنة سبع وثلاثين ، على أن يوافي علي ومعاوية موضع الحكمين بدومة الجندل في رمضان ، فإن لم يجتمعا بذلك اجتمعا من العام المقبل .

وخرج الأشعث بذلك الكتاب يقرؤه على الناس ، ويعرضه عليهم ، فمر به على طائفة من بني تميم فيهم عروة بن أدية ، فقرأه عليهم ، فقال عروة : تحكمون في أمر الله الرجال ، لا حكم إلا لله ، ثم سل سيفه فضرب به عجز دابته ، فغضب للأشعث قومه [وناس كثير من أهل اليمن ] ، ثم سكتوا .

وأذن علي بالرحيل ، فمضى علي على طريق البر على شاطئ الفرات حتى انتهى إلى هيت وعلى صندوداء .

وقال سيف الضبي : أقاموا بصفين سبعة أو تسعة أشهر . وكان بينهم القتال نحو سبعين زحفا ، وقتل في ثلاثة أيام نحو سبعين ألفا من الفريقين .

قال الزهري : بلغني أنه كان يدفن في القبر خمسون .

قال ربيعة بن لقيط: مطرت السماء عليهما دما كانوا يأخذونه بالآنية .

التالي السابق


الخدمات العلمية