الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل [في إظهار معاوية الخلاف لعلي ]

وفي سبب إظهار معاوية مخالفة علي رضي الله عنه ، فإنه بلغه أن عليا رضي الله عنه ، قال: لا أقره على عمله ، فقال معاوية: والله لا ألي له شيئا ولا أبايعه ، ولا أقدم عليه ، فبعث إليه جرير بن عبد الله البجلي يدعوه إلى الطاعة فأبى ، فحينئذ عزم علي رضي الله عنه على الخروج إلى صفين . وقال سهل بن سعد: دعا علي رضي الله عنه قيس بن سعد الأنصاري ، فقال له: سر إلى مصر فقد وليتكها ، فإذا أنت قدمتها فأحسن إلى المحسن ، واشتد على المريب وارفق بالعامة والخاصة . فلما قدم أخذ البيعة لعلي رضي الله عنه ، واستقامت له مصر ، إلا أن قرية منها يقال لها: "خربتا" فيها أناس قد أعظموا قتل عثمان رضي الله عنه ، وبها رجل يقال له: يزيد بن الحارث من بني مدلج . فبعث إلى قيس: أقرنا على حالنا حتى ننظر إلى ما يصير إليه أمر الناس . [ ص: 98 ]

فكتب معاوية إلى قيس بن سعد: سلام عليك ، أما بعد ، فإنكم كنتم نقمتم على عثمان في أثرة رأيتموها ، أو ضربة بسوط ضربها ، فإنكم قد علمتم أن دمه لم يكن يحل لكم ، فتب إلى الله يا قيس بن سعد ، فإنك كنت من المجلبين على عثمان بن عفان ، فأما صاحبك فقد استيقنا أنه الذي أغرى الناس به ، وحملهم على قتله ، فإن استطعت يا قيس أن تكون ممن يطلب بدم عثمان فافعل ، تابعنا على أمرنا ، ولك سلطان العراق إذا ظهرت ما بقيت ، ولمن أحببت من أهل بيتك سلطان الحجاز ما دام لي سلطان . وسلني غير هذا مما تحب .

فلما جاءه كتاب معاوية أحب أن يدافعه ، فكتب إليه: أما بعد ، فقد بلغني كتابك ، وفهمت ما ذكرت فيه من قتل عثمان ، وذلك أمر لم أفارقه ، وذكرت أن صاحبي هو الذي أغرى الناس بعثمان ، وهذا لم أطلع عليه ، وأما ما سألتني من متابعتك وعرضت علي من الجزاء فيه فهذا أمر لي فيه نظر ، ولن يأتيك شيء تكرهه .

فلما قرأ معاوية الكتاب كتب إليه: أما بعد ، فإني لم أرك تدنو فأعدك سلما ، ولم أرك تباعد فأعدك حربا ، وليس مثلي ينخدع ومعه عدد الرجال ، وبيده أعنة الخيل .

فلما قرأ كتاب معاوية ، ورأى أنه لا يقبل منه المدافعة ، كتب إليه:

بسم الله الرحمن الرحيم من قيس بن سعد إلى معاوية بن أبي سفيان ، أما بعد ، فالعجب العجيب من اغترارك وطمعك في أن تسومني للخروج من طاعة أولى الناس بالإمارة ، وأقولهم للحق ، وأقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني بالدخول في طاعة أبعد الناس من هذا الأمر ، وأقولهم بالزور ، وأضلهم سبيلا ، وقولك إني مالئ عليك مصر خيلا ورجلا ، فو الله لأشغلنك بنفسك حتى تكون نفسك أهم إليك ، إنك لذو جد ، والسلام .

فلما أتى معاوية كتاب قيس أيس منه ، وثقل عليه مكانه .

قال الزهري : كان معاوية وعمرو بن العاص جاهدين أن يخرجا قيسا من مصر [ ص: 99 ] ليغلبا عليها ، وكان قد امتنع منها بالدهاء والمكايدة ، فلم يقدرا عليه حتى كاد معاوية قيس بن سعد من قبل علي ، فكان معاوية يقول: ما ابتدعت مكايدة قط كانت أعجب عندي من مكايدة كدت بها قيسا من قبل علي ، فكتبت إلى أهل الشام : لا تسبوا قيسا فإنه لنا شيعة ، تأتينا كتبه ونصيحته سرا . ألا ترونه يحسن إلى كل راكب منكم ، ألا ترون ما يفعل بإخوانكم من أهل خربتا ، يجري عليهم أعطياتهم وأرزاقهم .

فبلغ ذلك عليا فاتهم قيسا وكتب إليه يأمره بقتال أهل خربتا ، وأهل خربتا يومئذ عشرة آلاف ، فأبى وكتب إلى علي : إنهم وجوه أهل مصر ، وقد رضوا مني أن أؤمن سربهم ، وأجري عليهم أعطياتهم ، وقد علمت أن هواهم مع معاوية ، فأبى علي رضي الله عنه إلا قتالهم ، وأبى قيس أن يقاتلهم ، وكتب إلى علي : إن كنت تتهمني فاعزلني عن عملك ، وابعث عليه غيري ، فبعث الأشتر إلى مصر أميرا عليها حتى إذا صار بالقلزم سقي شربة عسل فيها سم كان فيها حتفه .

فلما بلغ عليا وفاة الأشتر بالقلزم بعث محمد بن أبي بكر أميرا على مصر . هذا قول الزهري .

وقال هشام بن محمد: إنما بعث الأشتر بعد هلاك محمد بن أبي بكر ، ولما جاء عليا مقتل محمد بن أبي بكر علم أن قيسا كان ينصحه فأطاعه في كل شيء . قال علماء السير: وكان علي رضي الله عنه قد كتب عهد محمد بن أبي بكر لغرة رمضان ، فلم يلبث محمد شهرا كاملا حتى بعث إلى أولئك الذين كان قيس وادعهم ، وقال: يا هؤلاء ، إما أن تدخلوا في طاعتنا ، وإما أن تخرجوا من بلادنا ، فبعثوا إليه: دعنا حتى ننظر ، فأبى وبعث إليهم رجلا فقتلوه ، ثم بعث آخر فقتلوه .

التالي السابق


الخدمات العلمية