الخامس
كقوله : من الغيبة إلى التكلم سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ( الإسراء : 1 ) .
وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا ( فصلت : 12 ) .
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا ( مريم : 88 - 89 ) .
وقوله : والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه ( فاطر : 9 ) وفائدته : أنه لما كان سوق السحاب إلى البلد إحياء للأرض بعد موتها بالمطر ، دالا على القدرة الباهرة والآية العظيمة التي لا يقدر عليها غيره عدل عن لفظ الغيبة إلى التكلم ؛ لأنه أدخل في الاختصاص وأدل عليه وأفخم .
وفيه معنى آخر وهو أن الأقوال المذكورة في هذه الآية منها ما أخبر به سبحانه أنه بسبب وهو سوق السحاب ، فإنه بسوق الرياح فتسوقه الملائكة بأمره ، وإحياء الأرض به بواسطة إنزاله ، وسائر الأسباب التي يقتضيها حكمه وعلمه ، وعادته سبحانه في كل هذه الأفعال أن يخبر بها بنون التعظيم الدالة على أن له جندا وخلقا قد سخرهم في ذلك ؛ كقوله تعالى : فإذا قرأناه فاتبع قرآنه أي : إذا قرأه رسولنا جبريل ، وقوله : يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا ( طه : 102 ) .
[ ص: 386 ] وأما إرسال السحاب فهو سبحانه يأذن في إرسالها ، ولم يذكر له سببا بخلاف سوق السحاب وإنزال المطر ، فإنه قد ذكر أسبابه : وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء ( الأنعام : 99 ) ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة ( الحج : 63 ) ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ( فاطر : 27 ) أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ( النمل : 60 ) .
وجعل منه قوله في سورة طه : الزمخشري وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى ( طه : 53 ) : وزعم الجرجاني أن في هذه الآية التفاتا ، وجعل قوله : وأنزل من السماء ماء ( طه : 53 ) آخر كلام موسى ، ثم ابتدأ الله تعالى فأخبر عن نفسه بأوصافه لمعالجتها .
وأشار إلى أن فائدة الالتفات إلى التكلم في هذه المواضع التنبيه على التخصيص بالقدرة ؛ وأنه لا يدخل تحت قدرة أحد ، وهو معنى قول غيره : إن الإشارة إلى حكاية الحال واستحضار تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة . وكذا يفعلون لكل فعل فيه نوع تمييز وخصوصية بحال تستغرب أو تهم المخاطب ، وإنما قال : الزمخشري فتصبح الأرض مخضرة ( الحج : 63 ) لإفادة بقاء المطر زمانا بعد زمان .
ومثله : فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح ( فصلت : 12 ) عدل عن الغيبة في " قضاهن " و " سواهن " إلى التكلم في قوله : وزينا ( فصلت : 12 ) فقيل للاهتمام بذلك والإخبار عن نفسه بأنه جعل الكوكب زينة السماء الدنيا وحفظا ؛ تكذيبا لمن أنكر ذلك .
وقيل : لما كانت الأفعال المذكورة في هذه الآية نوعين :
أحدهما : وجه الإخبار عنه بوقوعه في الأيام المذكورة ، وهو خلق الأرض في يومين ، وجعل الرواسي من فوقها وإلقاء البركة فيها ، وتقدير الأقوات في تمام أربعة أيام ، ثم الإخبار [ ص: 387 ] بأنه استوى إلى السماء ، وأنه أتمها وأكملها سبعا في يومين ، فأتى في هذا النوع بضمير الغائب عطفا على أول الكلام في قوله : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها ( فصلت : 9 - 10 ) إلى قوله : فقضاهن سبع سماوات ( فصلت : 12 ) الآية .
والثاني : قصد به الإخبار مطلقا من غير قصد مدة خلقه ، وهو تزيين سماء الدنيا بمصابيح ، وجعلها حفظا ، فإنه لم يقصد بيان مدة ذلك ، بخلاف ما قبله ؛ فإن نوع الأول يتضمن إيجادا لهذه المخلوقات العظيمة في هذه المدة اليسيرة ، وذلك من أعظم آثار قدرته ، وأما تزيين السماء الدنيا بالمصابيح فليس المقصود به الإخبار عن مدة خلق النجوم ، فالتفت من الغيبة إلى التكلم فقال : زينا .
فائدة
وقد تكرر الالتفات في قوله تعالى : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير ( الإسراء : 1 ) في أربعة مواضع ؛ فانتقل عن الغيبة في قوله : سبحان الذي أسرى بعبده ( الإسراء : 1 ) إلى التكلم في قوله : باركنا حوله ( الإسراء : 1 ) ثم عن التكلم إلى الغيبة في قوله : ليريه ( الإسراء : 1 ) بالياء على قراءة الحسن ، ثم عن الغيبة إلى التكلم في قوله : آياتنا ( الإسراء : 1 ) ثم عن التكلم إلى الغيبة في قوله : إنه هو السميع البصير ( الإسراء : 1 ) .
وكذلك في الفاتحة ، فإن من أولها إلى قوله : مالك يوم الدين ( الفاتحة : 4 ) أسلوب غيبة ، ثم التفت بقوله : إياك نعبد وإياك نستعين ( الفاتحة : 5 ) إلى أسلوب خطاب في قوله : أنعمت عليهم ( الفاتحة : 7 ) ثم التفت إلى الغيبة بقوله : غير المغضوب عليهم ( الفاتحة : 7 ) [ ص: 388 ] ولم يقل " الذين غضبت " كما قال : أنعمت عليهم ( الفاتحة : 7 ) .