فصل : فأما  دية الخطأ المحض وعمد الخطأ   فالذي عليه جمهور الأمة من المتقدمين والمتأخرين أنها واجبة على العاقلة تتحملها عن القاتل ، وشذ منهم  الأصم   ،  وابن علية   وطائفة من  الخوارج   فأوجبوها على القاتل دون العاقلة كالعمد ، احتجاجا      [ ص: 341 ] بقول الله تعالى :  ولا تزر وازرة وزر أخرى      [ فاطر : 18 ] وقوله تعالى :  لتجزى كل نفس بما تسعى      [ طه : 15 ] وقوله تعالى :  كل نفس بما كسبت رهينة      [ المدثر : 38 ] أي مأخوذة .  
وبما  روي أن  الحسحاس بن عمرو العنبري   قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، الرجل من قومي يجني أفؤآخذ به فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : من هذا منك ؟ وكان معه ابنه فقال : ابني أشهد به . أي أعلمه قطعا وليس بمستلحق ، فقال : إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه  ولم يرد بذلك فعل الجناية ، لأنه قد يجني كل واحد منهما على صاحبه ، وإنما أراد به أن لا يؤاخذ بجنايتك ولا تؤاخذ بجنايته .  
وروى  أياد بن لقيط   عن  أبي رمثة   قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أبي فرأى التي في ظهره ، فقال له أبي : دعني أعالجها فإني طبيب ، فقال : أنت رفيق والله الطبيب ، من هذا معك ؟ فقال : ابني أشهد به ، فقال : أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه     .  
وروى  الحكم   عن  مسروق   عن  ابن مسعود   أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :  ألا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ، لا يؤخذ الأب بجريرة ابنه  وهذا نص .  
قالوا : ولأنه لما لم يتحمل العاقلة قيم الأموال لم يتحمل دية النفوس ، ولأن العاقلة لو تحملت دية الخطأ لتحملت دية العمد ، ولأن الدية عقوبة فلم تتحملها العاقلة كالقود ، ولأن لقتل الخطأ موجبين : الدية والكفارة ، فلما لم تتحمل العاقلة الكفارة لم تتحمل الدية .  
والدليل على أن العاقلة تتحمل الدية قول الله تعالى :  وتعاونوا على البر والتقوى      [ المائدة : 2 ] وتحمل العاقلة من جملة البر والتقوى فدخل في عموم الآية ، وروى  سعيد بن المسيب   عن  أبي هريرة   قال :  قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنين امرأة من  بني لحيان   سقط ميتا بغرة عبد أو أمة ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ميراثها لبنيها وزوجها وأن العقل على عصبتها     .  
وروى  أبو سلمة   عن  أبي هريرة   قال : اقتتلت امرأتان من  بني هذيل   ، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها ، فاختصموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة ، وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثتها ولدها ومن      [ ص: 342 ] معه ، فقال  حمل بن مالك بن النابغة الهذلي      : يا رسول الله ، كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل ومثل ذلك يطل ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن هذا من إخوان الكهان من أجل مسجعه الذي سجعه     .  
وروى  الشعبي   عن  جابر   أن امرأتين من  هذيل   قتلت إحداهما الأخرى ولكل واحدة منهما زوج وولد ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دية المقتولة على عاقلة القاتلة  ، وروى  أبو عازب   عن  أبي سعيد الخدري   أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :  القود بالسيف والخطأ على العاقلة     .  
وروي  أن النبي صلى الله عليه وسلم ميز بين معاقل  قريش   والأنصار فجعل معاقل  قريش   فيهم ، ومعاقل الأنصار في  بني ساعدة      .  
وروى  حماد   عن  إبراهيم   أن  عليا   والزبير   اختصما إلى  عمر بن الخطاب   رضي الله عنهم في موالي   صفية بنت عبد المطلب  لأن  الزبير   ابنها  وعليا   ابن أخيها ، فقضى  للزبير   بالميراث وعلى  علي   بالعقل .  
ولأن إجماع الصحابة انعقد في  قصة  عمر بن الخطاب   حين أنفذ رسوله إلى امرأة في قذف بلغه عنها فأجهضت ذات بطنها ، فسأل  عثمان   وعبد الرحمن   فقالا : لا شيء عليك إنما أنت معلم ، وسأل  عليا   فقال : إن كانا اجتهدا فقد أخطآ وإن كانا ما اجتهدا فقد غشيا عليك الدية ، فقال  عمر      : عزمت عليك لا تبرح حتى تضربها على قومك ، يعني  قريشا   لأنهم عاقلته ، فقضى بها عليهم فتحملوها عنه  ، ولم يخالفه منهم ولا من جميع الأمة أحد مع انتشار القضية ، وظهورها في الكافة ، فثبت أنه إجماع لا يسوغ خلافه ولأن اختصاص العاقلة بالاسم موجب لاختصاصهم بالحكم ، وفقد الحكم يوجب زوال الاسم ، ولأن العقل في كلامهم المنع ، وقد كانت العرب في الجاهلية يمنعون عن القاتل بأسيافهم ، فلما منعهم الإسلام من السيف عوض منه منعهم منه بأموالهم ؟ ولذلك انطلق اسم العاقلة عليهم ، ولأن النفوس مغلظة على الأموال ، وقتل الخطأ يكثر بين الناس ، وفي إيجاب الدية على القاتل في ماله أحد أمرين إما استئصال ماله إن كان واحدا وقل أن يتسع لتحمل الدية مال الواحد ، وإما إهدار الدم إن كان معدما ، وفي تحمل العاقلة عنه مواساة تفضي إلى حفظ الدماء واستبقاء الأحوال ، وهذا أدعى إلى المصلحة وأبعث على التعاطف ، ولأنه لما تحمل بالنسب بعض حقوق الله تعالى في الأموال وهو زكاة الفطر جاز أن يتحمل بعض حقوق الآدميين في الأموال وهو ديات الخطأ ، فأما الجواب عن الآية فحقيقة الوزر الإثم ، وهو لا يتحمل ، وكذلك ظاهر الآيتين محمول على أحد أمرين : إما المأثم وإما أحكام عمده .  
وأما قوله في الخبرين أنه لا يجني عليك ولا تجني عليه فعنه جوابان :  
 [ ص: 343 ] أحدهما : أن الأبناء والآباء لا يتحملون العقل وإنما يتحمله من عداهم من العصبات .  
والثاني : أنه يحمل على العمد الذي لا يتحمل عن القاتل ولا يؤاخذ به غيره ، وكذلك الجواب عن قوله : " لا يؤخذ الأب بجريرة ابنه ولا الابن بجريرة أبيه " .  
وأما جمعهم بين الأموال والنفوس فغير صحيح ، لتغليظ النفوس على الأموال ، ولذلك دخلت القسامة في النفوس ولم تدخل في الأموال .  
وأما العمد فلأنه عن معصية يستحق فيها القود ، والعاصي لا يعان ولا يواسى ، والقود لا يدخله تحمل ولا نيابة .  
وأما الكفارة فمن حقوق الله تعالى التي تتعلق بالمال تارة وبالصيام تارة ، ولا يصح فيها عفو فلم يدخلها مواساة ، وخالفتها الدية في هذه الأحكام مخالفتها في التحمل والله أعلم .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					