الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
تأنيث المذكر

كقوله تعالى : الذين يرثون الفردوس هم فيها ( المؤمنون : 11 ) فأنث ( الفردوس ) وهو مذكر ؛ حملا على معنى الجنة .

وقوله : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ( الأنعام : 160 ) فأنث " عشر " حيث جردت من الهاء مع إضافته إلى الأمثال ، وواحدها مذكر وفيه أوجه :

أحدها : أنث لإضافة الأمثال إلى مؤنث ؛ وهو ضمير الحسنات ، والمضاف يكتسب أحكام المضاف إليه ، فتكون كقوله : يلتقطه بعض السيارة ( يوسف : 10 ) .

والثاني : هو من باب مراعاة المعنى ؛ لأن الأمثال في المعنى مؤنثة ؛ لأن مثل الحسنة حسنة لا محالة ، فلما أريد توكيد الإحسان إلى المطيع ، وأنه لا يضيع شيء من عمله ، كأن الحسنة المنتظرة واقعة ، جعل التأنيث في أمثالها منبهة على ذلك الوضع ، وإشارة إليه ، كما جعلت الهاء في قولهم : راوية وعلامة ؛ تنبيها على المعنى المؤنث المراد في أنفسهم ، [ ص: 426 ] وهو الغاية والنهاية ، ولذلك أنث المثل هنا توكيدا لتصوير الحسنة في نفس المطيع ؛ ليكون ذلك أدعى له إلى الطاعة ، حتى كأنه قال : " فله عشر حسنات أمثالها " حذف ، وأقيمت صفته مقامه ، وروعي ذلك المحذوف الذي هو المضاف إليه ، كما يراعى المضاف في نحو قوله : أو كظلمات في بحر لجي ( النور : 40 ) أي : " أو كذي ظلمات " وراعاه في قوله : يغشاه موج ( النور : 40 ) وهذا الوجه هو الذي عول عليه الزمخشري ، ولم يذكر سواه .

وأما ابن جني فذكر في " المحتسب " الوجه الأول ، وقال : فإن قلت : فهلا حملته على حذف الموصوف ، فكأنه قال : " فله عشر حسنات وأمثالها " ؟ قيل : حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ليس بمستحسن في القياس ؛ وأكثر ما أتى في الشعر ، ولذلك حمل ( دانية ) من قوله : ودانية عليهم ظلالها ( الإنسان : 14 ) على أنه وصف جنة ، أو " وجنة دانية " عطف على " جنة " من قوله : وجزاهم بما صبروا جنة ( الإنسان : 12 ) لما قدر حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، حتى عطف على قوله : متكئين فيها على الأرائك ( الإنسان : 13 ) فكانت حالا معطوفة على حال .

وفي " كشف المشكلات " للأصبهاني ، حذف الموصوف هو اختيار سيبويه ، وإن كان لا يرى حسن " ثلاثة مسلمين " بحذف الموصوف ، لكن المثل وإن كان معنى جرى مجرى الاسم في " مررت بمثلك " ولا يستقل به الموصوف .

وقوله تعالى حكاية عن لقمان : يابني إنها إن تك مثقال حبة من خردل ( لقمان : 16 ) فأنث الفعل المسند لـ " مثقال " وهو مذكر ، ولكن لما أضيف إلى " حبة " اكتسب منه التأنيث ، فساغ تأنيث فعله .

[ ص: 427 ] وذكر أبو البقاء في قوله تعالى : كل نفس ذائقة الموت ( آل عمران : 185 ) أن التأنيث في " ذائقة " باعتبار معنى ( كل ) لأن معناها التأنيث ، قال : لأن كل نفس نفوس ولو ذكر على لفظ " كل " جاز ، يعني أنه لو قيل : كل نفس ذائق كذا ، جاز .

وهو مردود ؛ لأنه يجب اعتبار ما يضاف إليه " كل " إذا كانت نكرة ، ولا يجوز أن يعتبر ( كل ) .

وقوله تعالى : إن تبدوا الصدقات فنعما هي ( البقرة : 271 ) فإن الظاهر عود الضمير إلى الإبداء بدليل قوله : وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ( البقرة : 271 ) فذكر الضمير العائد على الإخفاء ، ولو قصد الصدقات لقال : " فهي " وإنما أنث " هي " والذي عاد إليه مذكر على حذف مضاف ، أي : وإبداؤها نعم ما هي ، كقوله : القرية اسألها .

ومنه ( سعيرا ) ( الفرقان : 11 ) وهو مذكر . ثم قال : إذا رأتهم ( الفرقان : 12 ) فحمله على النار .

وأما قوله : لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن ( فصلت : 37 ) فقيل : الضمير عائد على الآيات المتقدمة في اللفظ .

وقال البغوي : إنما قال : خلقهن بالتأنيث لأنه أجري على طريق جمع التكسير ، ولم يجر على طريق التغليب للمذكر على المؤنث ؛ لأنه فيما لا يعقل .

وقيل في قوله : الذي خلقكم من نفس واحدة ( النساء : 1 ) : إن المراد آدم فأنثه ردا إلى النفس ، وقد قرئ شاذا : " من نفس واحد " .

[ ص: 428 ] وحكى الثعلبي في تفسيره في سورة " اقترب " بإسناده إلى المبرد ؛ سئل عن ألف مسألة ، منها : ما الفرق بين قوله تعالى : جاءتها ريح عاصف ( يونس : 22 ) وقوله : ولسليمان الريح عاصفة ( الأنبياء : 81 ) وقوله : أعجاز نخل خاوية ( الحاقة : 7 ) و كأنهم أعجاز نخل منقعر ( القمر : 20 ) فقال : كل ما ورد عليك من هذا الباب ، فلك أن ترده إلى اللفظ تذكيرا ، ولك أن ترده إلى المعنى تأنيثا ، وهذا من قاعدة أن اسم الجنس تأنيثه غير حقيقي ؛ فتارة يلحظ معنى الجنس فيذكر ، وتارة معنى الجماعة فيؤنث ، قال تعالى في قصة شعيب : وأخذت الذين ظلموا الصيحة ( هود : 94 ) وفي قصة صالح وأخذ الذين ظلموا الصيحة ( هود : 67 ) وقال : إن البقر تشابه علينا ( البقرة : 70 ) وقرئ : " تشابهت " .

وأبدى السهيلي للحذف والإثبات معنى حسنا فقال : إنما حذفت منه ؛ لأن الصيحة فيها بمعنى العذاب والخزي ، إذ كانت منتظمة بقوله سبحانه : ومن خزي يومئذ ( هود : 66 ) فقوي التذكير بخلاف قصة شعيب ، فإنه لم يذكر فيها ذلك .

وأجاب غيره بأن الصيحة يراد بها المصدر بمعنى الصياح ، فيجيء فيها التذكير ، فيطلق ويراد بها الوحدة من المصدر ، فيكون التأنيث أحسن .

وقد أخبر سبحانه عن العذاب الذي أصاب به قوم شعيب بثلاثة أمور كلها مفردة اللفظ :

أحدها : الرجفة ، في قوله : فأخذتهم الرجفة ( العنكبوت : 37 ) .

والثاني : الظلة ، في قوله : فأخذهم عذاب يوم الظلة ( الشعراء : 189 ) .

والثالث : الصيحة ، وجمع لهم الثلاثة ؛ لأن الرجفة بدأت بهم فأصحروا في الفضاء خوفا من سقوط الأبنية عليهم ، فضربتهم الشمس بحرها ، ورفعت لهم الظلة ، [ ص: 429 ] فهرعوا إليها يستظلون بها من الشمس ، فنزل عليهم فيها العذاب وفيه الصيحة ، فكان ذكر الصيحة مع الرجفة والظلة أحسن من ذكر الصياح ، فكان ذكر التاء أحسن .

فإن قلت : ما الفرق بين قوله سبحانه : فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ( النحل : 36 ) وبين قوله : فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة ( الأعراف : 30 ) .

قيل : الفرق بينهما من وجهين :

لفظي ومعنوي :

أما اللفظي ، فهو أن الفصل بين الفعل والفاعل في قوله : حق عليهم الضلالة ( الأعراف : 30 ) أكثر منه في قوله : حقت عليه الضلالة ( النحل : 36 ) والحذف مع كثرة الحواجز أحسن .

وأما المعنوي فهو أن ( من ) في قوله : ومنهم من حقت عليه الضلالة ( النحل : 36 ) راجعة على الجماعة وهي مؤنثة لفظا ، بدليل : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ( النحل : 36 ) ثم قال : ومنهم من حقت عليه الضلالة ( النحل : 36 ) أي : من تلك الأمم ، ولو قال : " ضلت " لتعينت التاء ، والكلامان واحد ، وإن كان معناهما واحدا فكان إثبات التاء أحسن من تركها ؛ لأنها ثابتة فيما هو من معنى الكلام المتأخر .

وأما : فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة ( الأعراف : 30 ) فالفريق مذكر ، ولو قال : " ضلوا " لكان بغير تاء ، وقوله : حق عليهم الضلالة ( الأعراف : 30 ) في معناه ، فجاء بغير تاء ، وهذا أسلوب لطيف من أساليب العرب ، أن يدعوا حكم اللفظ الواجب في قياس لغتهم ، إذا كان في مركبه كلمة لا يجب لها حكم ذلك الحكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية