الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[استئذان طلحة والزبير عليا ]

وحدثنا سيف ، عن محمد وطلحة قالا: استأذن طلحة والزبير عليا في العمرة ، فأذن لهما ، فلحقا بمكة ، وأحب أهل المدينة أن يعلموا ما رأي علي في معاوية ليعرفوا [ ص: 78 ] بذلك رأيه في قتال أهل القبلة ، أيجسر عليه أو ينكل عنه ، وقد بلغهم أن الحسن بن علي دخل عليه ودعاه إلى القعود وترك الناس ، فدسوا إليه زياد بن حنظلة التميمي - وكان منقطعا إلى علي - فدخل عليه فجلس إليه ساعة ثم قال له علي: يا زياد ، تيسر ، فقال: لأي شيء؟ فقال: لغزو الشام ، فقال زياد : الأناة والرفق أمثل ، وقال هذا البيت:


ومن لا يصانع في أمور كثيرة يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم

فتمثل علي وكأنه لا يريده يقول:


متى تجمع القلب الذكي وصارما     وأنفا حميا تجتنبك المظالم

فخرج زياد على الناس ، فقالوا: ما وراءك؟ فقال: السيف يا قوم ، فعرفوا ما هو فاعل ، ودعا علي محمد بن الحنفية ، فدفع إليه اللواء ، وولى عبد الله بن عباس ميمنة ، وعمرو بن أبي سلمة - أو عمرو بن سفيان بن عبد الأسد - ولاه ميسرته ، ودعا أبا ليلى بن عمرو بن الجراح ، ابن أخي أبي عبيدة بن الجراح ، فجعله على مقدمته ، واستخلف على المدينة قثم بن عباس ، وكتب إلى قيس بن سعد أن يندب الناس إلى الشام ، وإلى عثمان بن حنيف وإلى أبي موسى مثل ذلك ، وأصر على التهيؤ والتجهز ، وخطب أهل المدينة فدعاهم إلى النهوض في قتال أهل الفرقة ، وقال: انهضوا إلى هؤلاء القوم الذين يريدون تفريق جماعتكم ، لعل الله يصلح بكم ما أفسد أهل الآفاق أو تقضوا الذي عليكم .

فبينا هم كذلك إذ جاء الخبر عن أهل مكة بنحو آخر ، فقام فيهم فقال: ألا وإن طلحة والزبير وأم المؤمنين قد تمالئوا على سخط إمارتي ، وسأصبر ما لم أخف على جماعتكم .

ثم أتاه أنهم يريدون البصرة لمشاهدة الناس والإصلاح ، فتعبى للخروج نحوهم ، فاشتد على أهل المدينة الأمر ، فتثاقلوا ، فبعث إلى عبد الله بن عمر كميلا النخعي ، فجاء به فقال: انهض معي ، فقال: أنا مع أهل المدينة ، إنما أنا رجل منهم ، فإن يخرجوا [ ص: 79 ] أخرج وإن يقعدوا أقعد ، فرجع عبد الله إلى أهل المدينة وهم يقولون: لا والله ما ندري كيف نصنع ، فإن هذا الأمر لمشتبه علينا ، ونحن مقيمون حتى يضيء لنا ويسفر .

فخرج من تحت ليلته وأخبر أم كلثوم بنت علي بالذي سمع من أهل المدينة ، وأنه يخرج معتمرا مقيما على طاعة علي ما خلا النهوض ، وكان صدوقا فاستقر ذلك عندها ، وأصبح علي رضي الله عنه فقيل له: البارحة حدث حدث وهو أشد عليك من طلحة والزبير وأم المؤمنين ومعاوية ، قال: وما ذلك؟ فقال: خرج ابن عمر إلى الشام فأتى على السوق ، ودعا بالظهر فحمل الرجال وأعد لكل طريق طلابا . وماج أهل المدينة ، وسمعت أم كلثوم بالذي هو فيه ، فأتت عليا فقالت: ما لك لا تزند من هذا الرجل؟

وحدثته حديثه وقالت: أنا ضامنة له ، فطابت نفسه وقال: انصرفوا ، إنه عندي ثقة . [فانصرفوا] ، .

وكانت عائشة مقيمة بالمدينة تريد عمرة المحرم ، فلما قضت عمرتها وخرجت سمعت بما جرى فانصرفت إلى مكة وهي لا تقول شيئا ، فنزلت على باب المسجد وقصدت الحجر فسترت فيه ، واجتمع الناس إليها ، فقالت: إن الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المقتول بالأمس ، فبادروا بالعدوان فسفكوا الدم الحرام ، واستحلوا البلد الحرام ، وأخذوا المال الحرام ، فاجتماعكم عليهم ينكل بهم غيرهم ، ويشرد بهم من بعدهم ، فقال عبد الله بن عامر الحضرمي: ها أنا لها أول طالب ، فكان أول منتدب .

وحدثنا سيف ، عن عمرو بن محمد ، عن الشعبي ، قال: خرجت عائشة نحو المدينة من مكة بعد مقتل عثمان ، فلقيها رجل من أخوالها ، فقالت: ما وراءك؟ قال: قتل عثمان واجتمع الناس على علي رضي الله عنه ، والأمر أمر الغوغاء . قالت: ما أظن [ ص: 80 ] ذلك تاما ، ردوني ، فانصرفت راجعة إلى مكة حتى إذا دخلتها أتاها عبد الله بن عامر الحضرمي - وكان أمير عثمان عليها - فقال: ما ردك يا أم المؤمنين ؟ قالت: ردني أن عثمان قتل مظلوما ، وأن الأمر لا يستقيم ولهذه الغوغاء أمر ، فاطلبوا بدم عثمان تعزوا الإسلام .

فكان أول من أجابها عبد الله بن عامر الحضرمي ، وذلك أول ما تكلمت بنو أمية بالحجاز ورفعوا رءوسهم ، وقام معهم سعيد بن العاص ، والوليد بن عقبة وسائر بني أمية . وقد قدم عليهم عبد الله بن عامر من البصرة ، ويعلى بن أمية من اليمن ، وطلحة والزبير من المدينة ، واجتمع ملؤهم بعد نظر طويل في أمورهم على البصرة ، وقالت عائشة في مقام آخر: يا أيها الناس ، إن هذا حدث عظيم وأمر منكر ، فانهضوا فيه إلى إخوانكم من أهل البصرة فأنكروه ، فقد كفاكم أهل الشام ما عندهم ، لعل الله عز وجل أن يدرك لعثمان وللمسلمين بثأرهم .

وحدثنا سيف ، عن محمد ، وطلحة ، قالا: كان أول من أجاب إلى ذلك عبد الله بن عامر وبنو أمية ، ثم قدم يعلى بن أمية ومعه ستمائة بعير وستمائة ألف ، فأناخ بالأبطح معسكرا ، وقدم عليهم طلحة والزبير ، فلقيا عائشة رضي الله عنها ، فقالت: ما وراءكما؟ فقالا: إنا تحملنا هرابا من المدينة من غوغاء وأعراب ، وفارقنا قوما حيارى لا يعرفون [حقا] ولا ينكرون باطلا ، فائتمر القوم بالشام .

فقال عبد الله بن عامر: قد كفاكم الشام من يستمر في حوزته ، فقال له طلحة والزبير: فأين؟ قال: البصرة ، فإن لي بها صنائع ، ولهم في طلحة هوى ، فقالوا: يا أم المؤمنين ، دعي المدينة واشخصي معنا إلى البصرة فتنهضيهم كما أنهضت أهل مكة ، فإن أصلح الله الأمر كان الذي تريدين ، وإلا احتسبنا ودفعنا عن هذا الأمر بجهدنا ، قالت: نعم .

فانطلقوا إلى حفصة ، فقالت: رأي تبع لرأي عائشة ، حتى إذا لم يبق إلا [ ص: 81 ] الخروج ، قالوا: كيف نستقل وليس معنا مال نجهز به الناس؟ فقال يعلى بن أمية: معي ستمائة ألف وستمائة بعير فاركبوها ، فقال ابن عامر: معي كذا وكذا فتجهزوا بها .

فنادى المنادي: إن أم المؤمنين وطلحة والزبير شاخصون إلى البصرة ، فمن كان يريد إعزاز الإسلام وقتال المحلين والطلب بثأر عثمان ولم يكن عنده مركب ، ولم يكن له جهاز فهذا جهاز وهذه نفقة ، فحملوا ستمائة رجل على ستمائة ناقة سوى من كان له مركب - وكانوا جميعا ألفا - وتجهزوا بالمال ، ونادوا بالرحيل ، واستقلوا ذاهبين . وأرادت حفصة الخروج ، فأتاها عبد الله بن عمر فطلب إليها أن تقعد فقعدت ، وبعثت إلى عائشة تقول: إن عبد الله حال بيني وبين الخروج ، فقالت: يغفر الله لعبد الله .

وخرج المغيرة بن شعبة ، وسعيد بن العاص معهم مرحلة من مكة ، فقال سعيد للمغيرة: ما الرأي؟ قال: الرأي والله الاعتزال ، فإنهم ما [يفلح أمرهم ، فإن] أظفره الله أتيناه فقلنا: كان صغونا معك ، فجلسا .

وأخبرنا سيف ، عن محمد بن قيس ، عن الأغر ، قال: لما اجتمع إلى مكة بنو أمية ويعلى بن أمية ، وطلحة والزبير ، ائتمروا أمرهم ، واجتمع ملؤهم على الطلب بدم عثمان وقتال السبئية حتى يثأروا ، وأمرتهم عائشة بالخروج إلى المدينة ، واجتمع القوم على البصرة وردوها عن رأيها ، وأمرت على الصلاة عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد ، فكان يصلي بهم .

وحدثنا سيف ، عن سعيد بن عبد الله ، [عن] ابن أبي مليكة ، قال: سمعت [ ص: 82 ] عائشة بخبر عثمان في الطريق ، فرجعت فقالت: ألا إن عثمان عدت عليه الغوغاء ، وضعف عنه أصحابه ، فقتلوه مظلوما ، وإن عليا رضي الله عنه بويع فلم يقو عليهم ، ولا ينبغي له أن يقيم معهم ، فاطلبوا بدم عثمان ، فخرجت لتنهض الناس وترجع .

التالي السابق


الخدمات العلمية