[ ص: 347 ] قوله : " ولات حين " هذه الجملة في محل نصب على الحال من فاعل " نادوا " أي : استغاثوا ، والحال أنه لا مهرب ولا منجى .
وقرأ العامة " لات " بفتح التاء و " حين " بالنصب ، وفيها أوجه ، أحدها : - وهو مذهب - أن " لا " نافية بمعنى ليس ، والتاء مزيدة فيها كزيادتها في رب وثم ، ولا تعمل إلا في الأزمان خاصة نحو : لات حين ، ولات أوان ، كقوله : سيبويه
3830 - طلبوا صلحنا ولات أوان فأجبنا أن ليس حين بقاء
وقول الآخر :
3831 - ندم البغاة ولات ساعة مندم والبغي مرتع مبتغيه وخيم
والأكثر حينئذ حذف مرفوعها تقديره : ولات الحين حين مناص . وقد يحذف المنصوب ويبقى المرفوع . وقد قرأ هنا بذلك بعضهم كقوله : [ ص: 348 ]
3832 - من صد عن نيرانها فأنا ابن قيس لا براح
أي : لا براح لي . ولا تعمل في غير الأحيان على المشهور ، وقد تمسك بإعمالها في غير الأحيان بقوله :
3833 - حنت نوار ولات هنا حنت وبدا الذي كانت نوار أجنت
فإن " هنا " من ظروف الأمكنة . وفيه شذوذ من ثلاثة أوجه ، أحدها : عملها في اسم الإشارة وهو معرفة ولا تعمل إلا في النكرات . الثاني : كونه لا يتصرف . الثالث : كونه غير زمان . وقد رد بعضهم هذا بأن " هنا " قد خرجت عن المكانية واستعملت في الزمان ، كقوله تعالى : هنالك ابتلي المؤمنون وقول الشاعر :
3834 - ... ... ... ... فهناك يعترفون أين المفزع
كما تقدم في سورة الأحزاب ; إلا أن الشذوذين الآخرين باقيان . وتأول بعضهم البيت أيضا بتأويل آخر : وهو أن " لات " هنا مهملة لا عمل لها و " هنا " ظرف خبر مقدم و " حنت " مبتدأ بتأويل حذف " أن " المصدرية تقديره : أن حنت نحو " تسمع بالمعيدي خير من أن تراه " . وفي هذا تكلف وبعد . إلا أن فيه الاستراحة من الشذوذات المذكورات أو الشذوذين .
[ ص: 349 ] وفي الوقف عليها مذهبان : المشهور عند العرب وجماهير القراء السبعة بالتاء المجبورة إتباعا لمرسوم الخط الشريف . والكسائي وحده من السبعة بالهاء . والأول مذهب الخليل وسيبويه والزجاج والفراء وابن كيسان ، والثاني مذهب . وأغرب المبرد فقال : الوقف على " لا " والتاء متصلة بـ " حين " فيقولون : قمت تحين قمت ، وتحين كان كذا فعلت كذا . وقال : " رأيتها في الإمام كذا : " ولا تحين " متصلة . وأنشد على ذلك أيضا قول الشاعر : أبو عبيد
3835 - العاطفون تحين ما من عاطف والمطعمون زمان لا من مطعم
والمصاحف إنما هي " ولات حين " . وحمل العامة ما رآه على أنه مما شذ عن قياس الخط كنظائر له مرت لك .
وأما البيت فقيل : إنه شاذ لا يلتفت إليه . وقيل : إنه إذا حذف الحين المضاف إلى الجملة التي فيها " لات " جاز أن تحذف " لا " وحدها ويستغنى عنها بالتاء . والأصل : العاطفون حين لات حين لا من عاطف ، فحذف " حين " الأول و " لا " وحدها ، كما أنه قد صرح بإضافة " حين " إليها في قول الآخر : [ ص: 350 ]
3836 - وذلك حين لات أوان حلم ... ... ... ...
ذكر هذا الوجه ابن مالك ، وهو متعسف جدا . وقد تقدر إضافة " حين " إليها من غير حذف لها كقوله :
3837 - تذكر حب ليلى لات حينا ... ... ... ...
أي : حين لات حين . وأيضا فكيف يصنع بقوله : أبو عبيد
3838 - ... ... ... ... ولات ساعة مندم
[وقوله ] :
3839 - ... ... ... ... لات أوان ... ... ... ...
فإنه قد وجدت التاء مع " لا " دون " حين " ؟
الوجه الثاني من الأوجه السابقة : أنها عاملة عمل " إن " يعني أنها نافية [ ص: 351 ] للجنس فيكون " حين مناص " اسمها ، وخبرها مقدر تقديره : ولات حين مناص لهم ، كقولك : لا غلام سفر لك ، واسمها معرب لكونه مضافا .
الثالث : أن بعدها فعلا مقدرا ناصبا لـ " حين مناص " بعدها أي : لات أرى حين مناص لهم بمعنى : لست أرى ذلك ومثله : لا مرحبا بهم ولا أهلا ولا سهلا أي : لا أتوا مرحبا ، ولا لقوا أهلا ، ولا وطئوا سهلا . وهذان الوجهان ذهب إليهما الأخفش وهما ضعيفان . وليس إضمار الفعل هنا نظير إضماره في قوله :
3840 - ألا رجلا جزاه الله خيرا ... ... ... ...
لضرورة أن اسمها المفرد النكرة مبني على الفتح ، فلما رأينا هذا معربا قدرنا له فعلا خلافا ، فإنه يجوز تنوينه في الضرورة ، ويدعي أن فتحته للإعراب ، وإنما حذف التنوين للتخفيف ويستدل بالبيت المذكور وتقدم تحقيق هذا . للزجاج
الرابع : أن " لات " هذه ليست هي " لا " مزادا فيها تاء التأنيث ، وإنما هي : " ليس " فأبدلت السين تاء ، وقد أبدلت منها في مواضع قالوا : النات [ ص: 352 ] يريدون : الناس . ومنه " ست " وأصله سدس . قال :
3841 - يا قاتل الله بني السعلات عمرو بن يربوع شرار النات
ليسوا بأخيار ولا أكيات
وقرئ شاذا " قل أعوذ برب النات " إلى آخره . يريد : شرار الناس ولا أكياس ، فأبدل . ولما أبدل السين تاء خاف من التباسها بحرف التمني فقلب الياء ألفا فبقيت " لات " وهو من الاكتفاء بحرف العلة ; لأن حرف العلة لا يبدل ألفا إلا بشروط منها : أن يتحرك ، وأن ينفتح ما قبله ، فيكون " حين مناص " خبرها ، والاسم محذوف على ما تقدم ، والعمل هنا بحق الأصالة لا الفرعية .وقرأ عيسى بن عمر ولات حين مناص بكسر التاء وجر " حين " وهي قراءة مشكلة جدا . زعم الفراء أن " لات " يجر بها ، وأنشد :
3842 - ... ... ... ... ولتندمن ولات ساعة مندم
وأنشد غيره :
3843 - طلبوا صلحنا ولات أوان ... ... ... ...
[ ص: 353 ] البيت . وقال : " ومثله قول الزمخشري أبي زبيد الطائي : طلبوا صلحنا . البيت . قال : فإن قلت ما وجه الجر في " أوان " ؟ قلت : شبه بـ " إذ " في قوله :
3844 - ... ... ... ... ... ... ... ... وأنت إذ صحيح
في أنه زمان قطع منه المضاف إليه وعوض منه التنوين لأن الأصل : ولات أوان صلح . فإن قلت : فما تقول في " حين مناص " والمضاف إليه قائم ؟ قلت : نزل قطع المضاف إليه من " مناص" - لأن أصله : حين مناصهم - منزلة قطعه من " حين " لاتحاد المضاف والمضاف إليه ، وجعل تنوينه عوضا من المضاف المحذوف ، ثم بنى الحين لكونه مضافا إلى غير متمكن " . انتهى .
وخرجه الشيخ على إضمار " من " والأصل : ولات من حين مناص ، فحذفت " من " وبقي عملها نحو قولهم : على كم جذع بنيت بيتك ؟ أي : من جذع في أصح القولين . وفيه قول آخر : أن الجر بالإضافة ، ومثله قوله :
3845 - ألا رجل جزاه الله خيرا ... ... ... ...
أنشدوه بجر " رجل " أي : ألا من رجل .
[ ص: 354 ] قلت : وقد يتأيد بظهورها في قوله :
3846 - ... ... ... ... وقال : ألا لا من سبيل إلى هند
قال : " ويكون موضع " من حين مناص " رفعا على أنه اسم لات بمعنى ليس ، كما تقول : ليس من رجل قائما ، والخبر محذوف ، وعلى هذا قول سيبويه . وعلى أنه مبتدأ والخبر محذوف على قول . وخرج الأخفش " ولات أوان " على حذف مضاف ، يعني : أنه حذف المضاف وبقي المضاف إليه مجرورا على ما كان . والأصل : ولات حين أوان . الأخفش
وقد رد هذا الوجه مكي : بأنه كان ينبغي أن يقوم المضاف إليه مقامه في الإعراب فيرفع . قلت : قد جاء بقاء المضاف إليه على جره . وهو قسمان : قليل وكثير . فالكثير أن يكون في اللفظ مثل المضاف نحو :
3847 - أكل امرئ تحسبين امرأ ونار توقد بالليل نارا
أي : وكل نار . والقليل أن لا يكون كقراءة من قرأ والله يريد الآخرة [ ص: 355 ] بجر " الآخرة " فليكن هذا منه . على أن رواه بالرفع على إقامته مقام المضاف . المبرد
وقال : " الأصل : ولات أواننا ، فحذف المضاف إليه فوجب أن لا يعرب ، وكسره لالتقاء الساكنين " . قال الشيخ : " هذا هو الوجه الذي قرره الزمخشري ، أخذه من الزجاج " قلت : يعني الوجه الأول ، وهو قوله : ولات أوان صلح . أبي إسحاق
هذا ما يتعلق بجر " حين " .
وأما كسر تاء " لات " فعلى أصل التقاء الساكنين كـ جير ، إلا أنه لا تعرف تاء تأنيث إلا مفتوحة .
وقرأ أيضا بكسر التاء فقط ، ونصب " حين " كالعامة . وقرأ أيضا " ولات حين " بالرفع ، " مناص " بالفتح . وهذه قراءة مشكلة جدا لا تبعد عن الغلط من راويها عن عيسى فإنه بمكانة من العلم المانع له من مثل هذه القراءة . وقد خرجها عيسى أبو الفضل الرازي في " لوامحه " على التقديم والتأخير ، وأن " حين " أجري مجرى قبل وبعد في بنائه على الضم عند قطعه عن الإضافة بجامع ما بينه وبينهما من الظرفية الزمانية . و " مناص " اسمها مبني على الفتح فصل بينه وبينها بـ " حين " المقطوع عن الإضافة . والأصل : ولات مناص حين كذا ، ثم حذف المضاف إليه " حين " ، وبني على الضم وقدم فاصلا بين " لات " واسمها . قال : " وقد يجوز أن يكون لذلك معنى لا أعرفه " . وقد روي في تاء " لات " الفتح والكسر والضم .
[ ص: 356 ] وقوله : " فنادوا " لا مفعول له ; لأن القصد : فعلوا النداء ، من غير قصد منادى . وقال : " كانوا إذا قاتلوا فاضطروا نادى بعضهم لبعض : مناص أي : عليكم بالفرار ، فلما أتاهم العذاب قالوا : مناص " . فقال الله تعالى لهم : الكلبي ولات حين مناص " . قال القشيري : " فعلى هذا يكون التقدير : فنادوا مناص ، فحذف لدلالة ما بعده عليه " . قلت : فيكون قد حذف المنادى وهو بعضا وما ينادون به ، وهو مناص ، أي : نادوا بعضهم بهذا اللفظ . وقال : " أي : فنادوا حين لا مناص أي : ساعة لا منجى ولا فوت ، فلما قدم " لا " وأخر " حين " اقتضى ذلك الواو كما تقتضي الحال إذا جعل ابتداء وخبرا مثل ما تقول : " جاء زيد راكبا " ثم تقول : جاء وهو راكب . فـ " حين " ظرف لقوله " فنادوا " . قال الشيخ : " وكون أصل هذه الجملة فنادوا : حين لا مناص ، وأن " حين " ظرف لقوله : " فنادوا " دعوى أعجمية في نظم القرآن ، والمعنى على نظمه في غاية الوضوح " . قلت : الجرجاني لا يعني أن حين ظرف لـ " نادوا " في التركيب الذي عليه القرآن الآن ، إنما يعني بذلك في أصل المعنى والتركيب ، كما شبه ذلك بقولك " جاء زيد راكبا " ثم بـ " جاء زيد وهو راكب " فـ " راكبا " في التركيب الأول حال ، وفي الثاني خبر مبتدأ ، كذلك " حين " كان في الأصل ظرفا للنداء ، ثم صار خبر " لات " أو اسمها على حسب الخلاف المتقدم . الجرجاني
والمناص : مفعل من ناص ينوص أي : هرب فهو مصدر يقال : ناصه ينوصه إذا فاته فهذا متعد ، وناص ينوص أي : تأخر . ومنه ناص عن قرنه أي : [ ص: 357 ] تأخر عنه جبنا . قاله الفراء ، وأنشد قول امرئ القيس :
3848 - أمن ذكر سلمى أن نأتك تنوص فتقصر عنها حقبة وتبوص
قال : " ناص ينوص أي : تقدم فيكون من الأضداد " . واستناص طلب المناص . قال أبو جعفر النحاس حارثة بن زيد :
3849 - غمر الجراء إذا قصرت عنانه بيدي استناص ورام جري المسحل
ويقال : ناص إلى كذا ينوص نوصا أي : التجأ إليه .