الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (35) قوله : الذين يجادلون يجوز فيه عشرة أوجه ، أحدها : أنه بدل من قوله : من هو مسرف وإنما جمع اعتبارا بمعنى " من " . الثاني : أن يكون بيانا له . الثالث : أن يكون صفة له . وجمع على معنى " من " أيضا . الرابع : أن ينتصب بإضمار أعني . الخامس : أن يرتفع خبر مبتدأ مضمر أي : هم الذين . السادس : أن يرتفع مبتدأ ، خبره " يطبع الله " . و " كذلك " خبر مبتدأ مضمر أيضا ، أي : الأمر كذلك . والعائد من الجملة وهي " يطبع " على [ ص: 479 ] المبتدأ محذوف ، أي : على كل قلب متكبر منهم . السابع : أن يكون مبتدأ ، والخبر " كبر مقتا " ، ولكن لا بد من حذف مضاف ليعود الضمير من " كبر " عليه . والتقدير : حال الذين يجادلون كبر مقتا ويكون " مقتا " تمييزا ، وهو منقول من الفاعلية إذ التقدير : كبر مقت حالهم أي : حال المجادلين . الثامن : أن يكون " الذين " مبتدأ أيضا ، ولكن لا يقدر حذف مضاف ، ويكون فاعل " كبر " ضميرا عائدا على جدالهم المفهوم من قوله : " ما يجادل " . والتقدير : كبر جدالهم مقتا . و " مقتا " على ما تقدم أي : كبر مقت جدالهم . التاسع : أن يكون " الذين " مبتدأ أيضا ، والخبر بغير سلطان أتاهم . قاله الزمخشري : ورده الشيخ : بأن فيه تفكيك الكلام بعضه من بعض ; لأن الظاهر تعلق " بغير سلطان " بـ " يجادلون " ، ولا يتعقل جعله خبرا لـ الذين لأنه جار ومجرور ، فيصير التقدير : الذين يجادلون كائنون أو مستقرون بغير سلطان ، أي : في غير سلطان ; لأن الباء إذ ذاك ظرفية خبر عن الجثث . العاشر : أنه مبتدأ وخبره محذوف أي : معاندون ونحوه ، قاله أبو البقاء .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : " كبر مقتا " يحتمل أن يراد به التعجب والاستعظام ، وأن يراد به الذم كبئس ; وذلك أنه يجوز أن يبنى فعل بضم العين مما يجوز التعجب منه ، ويجري مجرى نعم وبئس في جميع الأحكام . وفي فاعله ستة أوجه ، الأول : أنه ضمير عائد على حال المضاف إلى الذين ، كما تقدم تقريره . الثاني : أنه ضمير يعود على جدالهم المفهوم من " يجادلون " كما تقدم أيضا . الثالث : أنه الكاف في " كذلك " . قال الزمخشري : " وفاعل " كبر " قوله : " كذلك " أي : [ ص: 480 ] كبر مقتا مثل ذلك الجدال ، ويطبع الله كلام مستأنف " ورده الشيخ : بأن فيه تفكيكا للكلام وارتكاب مذهب ليس بصحيح . أما التفكيك فلأن ما جاء في القرآن من " كذلك نطبع " أو " يطبع " إنما جاء مربوطا بعضه ببعض فكذلك هذا ، وأما ارتكاب مذهب غير صحيح فإنه جعل الكاف اسما ولا تكون اسما إلا في ضرورة ، خلافا للأخفش .

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع : أن الفاعل محذوف ، نقله الزمخشري . قال : " ومن قال : كبر مقتا عند الله جدالهم ، فقد حذف الفاعل ، والفاعل لا يصح حذفه " . قلت : القائل بذلك الحوفي ، لكنه لا يريد بذلك تفسير الإعراب ، إنما يريد به تفسير المعنى ، وهو معنى ما قدمته من أن الفاعل ضمير يعود على جدالهم المفهوم من فعله ، فصرح الحوفي بالأصل ، وهو الاسم الظاهر ، ومراده ضمير يعود عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس : أن الفاعل ضمير يعود على ما بعده ، وهو التمييز نحو : " نعم رجلا زيد " ، و " بئس غلاما عمرو " . السادس : أنه ضمير يعود على " من " من قوله : من هو مسرف . وأعاد الضمير من " كبر " مفردا اعتبارا بلفظها ، وحينئذ يكون قد راعى لفظ " من " أولا في من هو مسرف كذاب ، ثم معناها ثانيا في قوله : الذين يجادلون إلى آخره ، ثم لفظها ثالثا في قوله : " كبر " . وهذا كله إذا أعربت " الذين " تابعا لمن هو مسرف نعتا أو بيانا أو بدلا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد عرفت أن الجملة من قوله : " كبر مقتا " فيها وجهان ، أحدهما : الرفع إذا جعلناها خبرا لمبتدأ . والثاني : أنها لا محل لها إذا لم تجعلها خبرا . بل هي [ ص: 481 ] جملة استئنافية . وقوله : " عند الله " متعلق بـ " كبر " ، وكذلك قد تقدم أنه يجوز أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف ، وأن يكون فاعلا وهما ضعيفان . والثالث - وهو الصحيح - أنه معمول لـ " يطبع " أي : مثل ذلك الطبع يطبع الله . و " يطبع الله " فيه وجهان ، أظهرهما : أنه مستأنف . والثاني : أنه خبر للموصول ، كما تقدم تقرير ذلك كله .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : " قلب متكبر " قرأ أبو عمرو وابن ذكوان بتنوين " قلب " ، وصفا القلب بالتكبر والجبروت ; لأنهما ناشئان منه ، وإن كان المراد الجملة ، كما وصف بالإثم في قوله : فإنه آثم قلبه . والباقون بإضافة " قلب " إلى ما بعده أي : على كل قلب شخص متكبر . وقد قدر الزمخشري مضافا في القراءة الأولى أي : على كل ذي قلب متكبر ، تجعل الصفة لصاحب القلب . قال الشيخ : " ولا ضرورة تدعو إلى اعتقاد الحذف " . قلت : بل ثم ضرورة إلى ذلك وهو توافق القراءتين ، فإنه يصير الموصوف في القراءتين واحدا ، وهو صاحب القلب ، بخلاف عدم التقدير ، فإنه يصير الموصوف في إحداهما القلب وفي الأخرى صاحبه .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية