الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (71) قوله : إذ الأغلال : جوزوا في " إذ " هذه أن تكون بمعنى " إذا " لأن العامل فيها محقق الاستقبال ، وهو " فسوف يعلمون " ، قالوا : وكما تقع " إذا " موقع " إذ " في قوله تعالى : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها كذلك تقع " إذ " موقعها ، وقد مضى نحو من هذا في البقرة عند قوله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب . قالوا : والذي حسن هذا تيقن وقوع الفعل فأخرج في صورة الماضي . قلت : ولا حاجة إلى إخراج " إذ " عن موضوعها ، بل هي باقية على دلالتها على المضي ، وهي منصوبة بقوله " فسوف يعلمون " نصب المفعول به أي : فسوف يعلمون يوم القيامة وقت الأغلال في أعناقهم أي : وقت سبب الأغلال ، وهي المعاصي التي كانوا يفعلونها في الدنيا كأنه قيل : سيعرفون وقت معاصيهم التي تجعل الأغلال في أعناقهم . وهو وجه واضح ، غاية ما فيه التصرف في " إذ " بجعلها مفعولا بها ، ولا يضر ذلك ; فإن [ ص: 495 ] المعربين غالب أوقاتهم يقولون : منصوب بـ اذكر مقدرا ولا يكون حينئذ إلا مفعولا به لاستحالة عمل المستقبل في الزمن الماضي . وجوزوا أن يكون منصوبا بـ اذكر مقدرا أي : اذكر لهم وقت الأغلال ليخافوا وينزجروا . فهذه ثلاثة أوجه ، خيرها أوسطها .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : " والسلاسل " العامة على رفعها . وفيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه معطوف على الأغلال ، وأخبر عن النوعين بالجار ، فالجار في نية التأخير . والتقدير : إذ الأغلال والسلاسل في أعناقهم . الثاني : أنه مبتدأ ، وخبره محذوف لدلالة خبر الأول عليه . الثالث : أنه مبتدأ أيضا ، وخبره الجملة من قوله " يسحبون " . ولا بد من ذكر يعود عليه منها . والتقدير : والسلاسل يسحبون بها حذف لقوة الدلالة عليه . فيسحبون مرفوع المحل على هذا الوجه . وأما في الوجهين المتقدمين فيجوز فيه النصب على الحال من الضمير المنوي في الجار ، ويجوز أن يكون مستأنفا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن مسعود وابن عباس وزيد بن علي وابن وثاب والمسيبي في اختياره " والسلاسل " نصبا " يسحبون " بفتح الياء مبنيا للفاعل ، فيكون " السلاسل " مفعولا مقدما ، ويكون قد عطف جملة فعلية على جملة اسمية . قال ابن عباس في معنى هذه القراءة : " إذ كانوا يجرونها ، فهو أشد عليهم يكلفون ذلك ، ولا يطيقونه " . وقرأ ابن عباس وجماعة " والسلاسل " بالجر ، " يسحبون " مبنيا للمفعول . وفيها ثلاثة تأويلات ، أحدها : الحمل على المعنى تقديره : إذ أعناقهم في الأغلال والسلاسل ، فلما كان معنى الكلام ذلك حمل عليه في العطف . قال الزمخشري : " ووجهه أنه لو قيل : إذ أعناقهم [ ص: 496 ] في الأغلال ، مكان قوله : إذ الأغلال في أعناقهم لكان صحيحا مستقيما ، فلما كانتا عبارتين معتقبتين حمل قوله : " والسلاسل " على العبارة الأخرى .

                                                                                                                                                                                                                                      ونظيره :


                                                                                                                                                                                                                                      3941 - مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ولا ناعب إلا ببين غرابها



                                                                                                                                                                                                                                      كأنه قيل : بمصلحين " وقرئ " بالسلاسل " . وقال ابن عطية : " تقديره : إذ أعناقهم في الأغلال والسلاسل ، فعطف على المراد من الكلام لا على ترتيب اللفظ ، إذ ترتيبه فيه قلب وهو على حد قول العرب " أدخلت القلنسوة في رأسي " . وفي مصحف أبي " وفي السلاسل يسحبون " . قال الشيخ بعد قول ابن عطية والزمخشري المتقدم : " ويسمى هذا العطف على التوهم ، إلا أن توهم إدخال حرف الجر على " مصلحين " أقرب من تغيير تركيب الجملة بأسرها ، والقراءة من تغيير تركيب الجملة السابقة بأسرها . ونظير ذلك قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      3942 - أجدك لن ترى بثعيلبات     ولا بيداء ناجية ذمولا




                                                                                                                                                                                                                                      ولا متدارك والليل طفل     ببعض نواشغ الوادي حمولا



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 497 ] التقدير : لست براء ولا متدارك . وهذا الذي قالاه سبقهما إليه الفراء فإنه قال : من جر السلاسل حمله على المعنى ، إذ المعنى : أعناقهم في الأغلال والسلاسل " .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني : أنه عطف على " الحميم " . فقدم على المعطوف عليه ، وسيأتي تقرير هذا . الثالث : أن الجر على تقدير إضمار الخافض ، ويؤيده قراءة أبي " وفي السلاسل " وقرأه غيره " وبالسلاسل " وإلى هذا نحا الزجاج . إلا أن ابن الأنباري رده وقال : " لو قلت : " زيد في الدار " لم يحسن أن تضمر " في " فتقول : " زيد الدار " ثم ذكر تأويل الفراء . وخرج القراءة عليه ثم قال : كما تقول : " خاصم عبد الله زيدا العاقلين " بنصب " العاقلين " ورفعه ; لأن أحدهما إذا خاصمه صاحبه ، فقد خاصمه الآخر . وهذه المسألة ليست جارية على أصول البصريين ، ونصوا على منعها ، وإنما قال بها من الكوفيين ابن سعدان . وقال مكي : " وقد قرئ والسلاسل ، بالخفض على العطف على " الأعناق " وهو غلط ; لأنه يصير : الأغلال في الأعناق وفي السلاسل ، ولا معنى للأغلال في السلاسل " . قلت : وقوله على العطف على " الأعناق " ممنوع بل خفضه على ما تقدم . وقال أيضا : " وقيل : هو معطوف على " الحميم " وهو أيضا لا يجوز ; لأن المعطوف المخفوض لا يتقدم على المعطوف عليه ، لو قلت : " مررت وزيد بعمرو " لم يجز ، وفي المرفوع يجوز نحو : " قام وزيد عمرو " ويبعد في المنصوب ، لا يحسن : " رأيت وزيدا عمرا " ولم يجزه في المخفوض أحد " .

                                                                                                                                                                                                                                      قلت : وظاهر كلامه أنه يجوز في المرفوع بعيد ، وقد نصوا أنه لا يجوز [ ص: 498 ] إلا ضرورة بثلاثة شروط : أن لا يقع حرف العطف صدرا ، وأن يكون العامل متصرفا ، وأن لا يكون المعطوف عليه مجرورا ، وأنشدوا :


                                                                                                                                                                                                                                      3943 - ... ... ... ...     عليك ورحمة الله السلام



                                                                                                                                                                                                                                      إلى غير ذلك من الشواهد ، مع تنصيصهم على أنه مختص بالضرورة .

                                                                                                                                                                                                                                      والسلسلة معروفة . قال الراغب " وتسلسل الشيء : اضطرب كأنه تصور منه تسلل متردد ، فتردد لفظه تنبيه على تردد معناه . وماء سلسل متردد في مقره " . والسحب : الجر بعنف ، والسحاب من ذلك ; لأن الريح تجره ، أو لأنه يجر الماء . وسجرت التنور أي : ملأته نارا وهيجتها . ومنه البحر المسجور أي : المملوء . وقيل : المضطرم نارا . قال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      3944 - إذا شاء طالع مسجورة     ترى حولها النبع والشوحطا



                                                                                                                                                                                                                                      فمعنى قوله تعالى هنا : ثم في النار يسجرون أي : يوقد لهم ، كقوله : وقودها الناس والسجير : الخليل الذي يسجر في مودة خليله ، كقولهم : فلان يحترق في مودة فلان .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 499 ]

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية