الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (8) قوله : فهي إلى الأذقان : في هذا الضمير وجهان ، أحدهما : - وهو المشهور - أنه عائد على الأغلال ، لأنها هي المحدث عنها ، ومعنى هذا الترتيب بالفاء : أن الغل لغلظه وعرضه يصل إلى الذقن لأنه يلبس العنق جميعه . الثاني : أن الضمير يعود على الأيدي ; لأن الغل لا يكون إلا في العنق واليدين ، ولذلك سمي جامعة . ودل على الأيدي هذه الملازمة المفهومة من هذه الآلة أعني الغل . وإليه ذهب الطبري . إلا أن الزمخشري قال : " جعل الإقماح نتيجة قوله : فهي إلى الأذقان ولو كان للأيدي لم يكن معنى التسبب في الإقماح ظاهرا . على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف وترك الظاهر " .

                                                                                                                                                                                                                                      وللناس في هذا الكلام قولان ، أحدهما : أن جعل الأغلال حقيقة . والثاني : أنه استعارة . وعلى كل من القولين جماعة من الصحابة والتابعين . وقال الزمخشري : " مثل تصميمهم على الكفر ، وأنه لا سبيل إلى ارعوائهم بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه ، ولا يطأطئون رؤوسهم له وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدامهم وما خلفهم في أن لا تأمل لهم ولا تبصر ، وأنهم متعامون عن آيات الله " . وقال غيره : " هذه استعارة لمنع الله إياهم من الإيمان وحوله بينهم وبينه " . قال ابن عطية : " وهذا أرجح الأقوال ; لأنه تعالى لما ذكر أنهم [ ص: 248 ] لا يؤمنون لما سبق لهم في الأزل عقب ذلك بأن جعل لهم من المنع وإحاطة الشقاوة ما حالهم معه حال المغلولين " انتهى . وتقدم تفسير الأذقان .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : " فهم مقمحون " هذه الفاء لأحسن ترتيب ; لأنه لما وصلت الأغلال إلى الأذقان لعرضها لزم عن ذلك ارتفاع رؤوسهم إلى فوق ، أو لما جمعت الأيدي إلى الأذقان وصارت تحتها لزم من ذلك رفعها إلى فوق ، فترتفع رؤوسهم . والإقماح : رفع الرأس إلى فوق كالإقناع ، وهو من قمح البعير رأسه إذا رفعها بعد الشرب : إما لبرودة الماء وإما لكراهة طعمه قموحا وقماحا بكسر القاف وضمها . وأقمحته أنا إقماحا والجمع قماح وأنشد :


                                                                                                                                                                                                                                      3775 - ونحن على جوانبها قعود نغض الطرف كالإبل القماح



                                                                                                                                                                                                                                      يصف نفسه وجماعة كانوا في سفينة فأصابهم الميد . قال الزجاج : " قيل للكانونين شهرا قماح ; لأن الإبل إذا وردت الماء رفعت رؤوسها لشدة البرد " . وأنشد أبو زيد للهذلي :


                                                                                                                                                                                                                                      3776 - فتى ما ابن الأغر إذا شتونا     وحب الزاد في شهري قماح



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 249 ] كذا رواه بضم القاف ، وابن السكيت بكسرها . وهما لغتان في المصدر كما تقدم . وقال الليث: القموح : رفع البعير رأسه إذا شرب الماء الكريه ثم يعود . وقال أبو عبيدة : " إذا رفع رأسه عن الحوض ، ولم يشرب " والمشهور أنه رفع الرأس إلى السماء كما تقدم تحريره . وقال الحسن : " القامح : الطامح ببصره إلى موضع قدمه " وهذا ينبو عنه اللفظ والمعنى . وزاد بعضهم مع رفع الرأس غض البصر مستدلا بالبيت المتقدم :


                                                                                                                                                                                                                                      ... ... ... ...     نغض الطرف كالإبل القماح



                                                                                                                                                                                                                                      وزاد مجاهد مع ذلك وضع اليد على الفم . وسأل الناس أمير المؤمنين عليا كرم الله وجهه عن هذه الآية فجعل يديه تحت لحييه ورفع رأسه ولعمري إن هذه الكيفية ترجح قول الطبري في عود " فهي " على الأيدي .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية