الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (48) قوله : إنا كل : العامة على رفع " كل " ، ورفعه على الابتداء و " فيها " خبره ، والجملة خبر " إن " ، وهذا كقوله في آل عمران : قل إن الأمر كله لله في قراءة أبي عمرو . وقرأ ابن السميفع وعيسى بن عمر بالنصب وفيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أن يكون تأكيدا لاسم " إن " . قال الزمخشري : " توكيد لاسم إن ، وهو معرفة . والتنوين عوض من المضاف إليه ، يريد : إنا كلنا فيها " انتهى . يعني فيكون " فيها " هو الخبر . وإلى كونه تأكيدا ذهب ابن عطية أيضا . وقد رد ابن مالك هذا المذهب فقال في " تسهيله " : " ولا يستغنى بنية إضافته خلافا للزمخشري " : قلت: وليس هذا مذهبا للزمخشري وحده بل هو منقول عن الكوفيين أيضا . الثاني : أن تكون [ ص: 488 ] منصوبة على الحال ، قال ابن مالك : " والقول المرضي عندي أن " كلا " في القراءة المذكورة منصوبة على الحال من الضمير المرفوع في " فيها " ، و " فيها " هو العامل وقد قدمت عليه مع عدم تصرفه ، كما قدمت في قراءة من قرأ : والسماوات مطويات بيمينه . وكقول النابغة :


                                                                                                                                                                                                                                      3935 - رهط ابن كوز محقبي أدراعهم فيهم ورهط ربيعة بن حذار



                                                                                                                                                                                                                                      وقول بعض الطائيين :


                                                                                                                                                                                                                                      3936 - دعا فأجبنا وهو بادي ذلة     لديكم وكان النصر غير بعيد



                                                                                                                                                                                                                                      يعني بنصب " بادي " وهذا هو مذهب الأخفش ، إلا أن الزمخشري منع من ذلك قال : " فإن قلت : هل يجوز أن يكون " كلا " حالا قد عمل فيه " فيها " ؟ قلت : لا ; لأن الظرف لا يعمل في الحال متقدمة كما يعمل في الظرف متقدما . تقول : كل يوم لك ثوب . ولا تقول : قائما في الدار زيد " . قال الشيخ : " وهذا الذي منعه أجازه الأخفش إذا توسطت الحال نحو : " زيد قائما [ ص: 489 ] في الدار " و " زيد قائما عندك " ، والمثال الذي ذكره ليس مطابقا لما في الآية ; لأن الآية تقدم فيها المسند إليه الحكم وهو اسم إن ، وتوسطت الحال إذا قلنا إنها حال ، وتأخر العامل فيها . وأما تمثيله بقوله : ولا تقول : " قائما في الدار زيد " ، فقد تأخر فيه المسند والمسند إليه . وقد ذكر بعضهم أن المنع في ذلك إجماع من النحاة " .

                                                                                                                                                                                                                                      قلت : الزمخشري منعه صحيح لأنه ماش على مذهب الجمهور ، وأما تمثيله بما ذكر فلا يضره لأنه في محل المنع ، فعدم تجويزه صحيح .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث أن " كلا " بدل من " نا " في " إنا " ، لأن " كلا " قد وليت العوامل فكأنه قيل : إن كلا فيها .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا كانوا قد تأولوا قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      2937 - ... ... ... ... حولا أكتعا

                                                                                                                                                                                                                                      [وقوله : ] .


                                                                                                                                                                                                                                      2938 - ... ... ... ... وحولا أجمعا

                                                                                                                                                                                                                                      على البدل مع عدم تصرف أكتع وأجمع فلأن يجوز ذلك في " كل " أولى [ ص: 490 ] وأحرى . وأيضا فإن المشهور تعريف " كل " حال قطعها . حكي في الكثير الفاشي : " مررت بكل قائما وببعض جالسا " ، وعزاه بعضهم لسيبويه . وتنكير " كل " ونصبها حالا في غاية الشذوذ نحو : " مررت بهم كلا " أي : جميعا . فإن قيل : فيه بدل الكل من الكل في ضمير الحاضر ، وهو لا يجوز . أجيب بوجهين ، أحدهما : أن الكوفيين والأخفش يرون ذلك ، وأنشدوا قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      3939 - أنا سيف العشيرة فاعرفوني     حميدا قد تذريت السناما



                                                                                                                                                                                                                                      فحميدا بدل من ياء " اعرفوني " ، وقد تأوله البصريون على نصبه على الاختصاص . والثاني : أن هذا الذي نحن فيه ليس محل الخلاف لأنه دال على الإحاطة والشمول . وقد قالوا : إنه متى كان البدل دالا على ذلك جاز ، وأنشدوا :


                                                                                                                                                                                                                                      3940 - فما برحت أقدامنا في مكاننا     ثلاثتنا حتى أزيروا المنائيا



                                                                                                                                                                                                                                      ومثله قوله تعالى : تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا ، قالوا " ثلاثتنا " بدل من " نا " في " مكاننا " لدلالتها على الإحاطة ، وكذلك " لأولنا وآخرنا " بدل من " ن " في " لنا " ، فلأن يجوز ذلك في " كل " التي هي أصل في الشمول والإحاطة بطريق الأولى . هذا كلام الشيخ في الوجه الثالث وفيه نظر ; لأن المبرد [ ص: 491 ] ومكيا نصا على أن البدل في هذه الآية لا يجوز ، فكيف يدعى أنه لا خلاف في البدل والحالة هذه ؟ لا يقال : إن في الآية قولا رابعا : وهو أن " كلا " نعت لاسم " إن " وقد صرح الكسائي والفراء بذلك فقالا : هو نعت لاسم " إن " لأن الكوفيين يطلقون اسم النعت على التأكيد ، ولا يريدون حقيقة النعت . وممن نص على ما قلته من التأويل المذكور مكي رحمه الله تعالى ، ولأن الكسائي إنما جوز نعت ضمير الغائب فقط دون المتكلم والمخاطب .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية