الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (3) قوله : غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب في هذه الأوصاف ثلاثة أوجه ، أحدها : أنها كلها صفات للجلالة كالعزيز العليم . وإنما جاز وصف المعرفة بهذه وإن كانت إضافتها لفظية ; لأنه يجوز أن تجعل إضافتها معنوية فتتعرف بالإضافة . نص سيبويه على أن كل ما إضافته غير محضة جاز أن يجعل محضة ، وتوصف به المعارف ، إلا الصفة المشبهة ، ولم يستثن غيره شيئا وهم الكوفيون . يقولون في نحو : " حسن الوجه " إنه يجوز أن تصير إضافته محضة . وعلى هذا فقوله " شديد العقاب " من باب الصفة المشبهة فكيف أجزت جعله صفة للمعرفة وهو لا يتعرف بالإضافة ؟

                                                                                                                                                                                                                                      والجواب : إما بالتزام مذهب الكوفيين : وهو أن الصفة المشبهة يجوز أن تتمحض إضافتها أيضا ، فتكون معرفة ، وإما بأن شديدا بمعنى مشدد كـ أذين بمعنى مؤذن فتتمحض إضافته .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : أن يكون الكل أبدالا لأن إضافتها غير محضة ، قاله الزمخشري . إلا أن الإبدال بالمشتق قليل جدا ، إلا أن يهجر فيها جانب الوصفية .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 454 ] الثالث : أن يكون " غافر " و " قابل " نعتين و " شديد " بدلا ، لما تقدم : من أن الصفة المشبهة لا تتعرف بالإضافة ، قاله الزجاج . إلا أن الزمخشري قال : " جعل الزجاج " شديد العقاب " وحده بدلا من الصفات ، فيه نبو ظاهر ، والوجه أن يقال : لما صودف بين هذه المعارف هذه النكرة الواحدة فقد آذنت بأن كلها أبدال غير أوصاف . ومثال ذلك قصيدة جاءت تفاعيلها كلها على مستفعلن فهي محكوم عليها أنها من الرجز ، وإن وقع فيها جزء واحد على متفاعلن كانت من الكامل " . وقد ناقشه الشيخ فقال : " ولا نبو في ذلك لأن الجري على القواعد التي قد استقرت وصحت هو الأصل وقوله : " فقد آذنت بأن كلها أبدال " تركيب غير عربي ; لأنه جعل " فقد آذنت " جواب لما ، وليس من كلامهم " لما قام زيد فقد قام عمرو " . وقوله : بأن كلها أبدال فيه تكرير للأبدال . أما بدل البداء عند من أثبته فقد تكررت فيه الأبدال . وأما بدل كل من كل وبعض من كل وبدل اشتمال فلا نص عن أحد من النحويين أعرفه في جواز التكرار فيها أو منعه . إلا أن في كلام بعض أصحابنا ما يدل على أن البدل لا يكرر ، وذلك في قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      3911 - فإلى ابن أم أناس أرحل ناقتي عمرو فتبلغ حاجتي أو تزحف




                                                                                                                                                                                                                                      ملك إذا نزل الوفود ببابه     عرفوا موارد مزبد لا ينزف



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 455 ] قال : " فـ " ملك " بدل من " عمرو " بدل نكرة من معرفة قال : " فإن قلت : لم لا يكون بدلا من " ابن أم أناس ؟ " قلت : لأنه أبدل منه عمرا ، فلا يجوز أن يبدل منه مرة أخرى لأنه قد طرح " انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ : " فدل هذا على أن البدل لا يتكرر ويتحد المبدل منه ، ودل على أن البدل من البدل جائز " . قلت : وقد تقدم له هذا البحث آخر الفاتحة عند قوله : غير المغضوب عليهم فعليك بمراجعته قال : " وقوله تفاعيلها هو جمع تفعال أو تفعول أو تفعول أو تفعيل وليس شيء منها معدودا من أجزاء العروض فإن أجزاءه منحصرة ليس فيها شيء من هذه الأوزان ، فصوابه أن يقول : جاءت أجزاؤها كلها على مستفعلن " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري أيضا : " ولقائل أن يقول : هي صفات وإنما حذفت الألف واللام من " شديد " ليزاوج ما قبله وما بعده لفظا فقد غيروا كثيرا من كلامهم عن قوانينه لأجل الازدواج ، فقالوا : " ما يعرف سحادليه من عبادليه " فثنوا ما هو وتر لأجل ما هو شفع . على أن الخليل قال في قولهم : " ما يحسن بالرجل مثلك أن يفعل ذلك " و " ما يحسن بالرجل خير منك " إنه على نية الألف واللام ، كما كان " الجماء الغفير " على نية طرح الألف واللام . ومما سهل ذلك الأمن من اللبس وجهالة الموصوف " . قال الشيخ : " ولا ضرورة [ ص: 456 ] إلى حذف أل من " شديد العقاب " وتشبيهه بنادر مغير وهو تثنية الوتر لأجل الشفع ، فينزه كتاب الله عن ذلك " . قلت : أما الازدواج - وهو المشاكلة - من حيث هو فإنه واقع في القرآن ، مضى لك منه مواضع .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري أيضا: " ويجوز أن يقال : قد تعمد تنكيره وإبهامه للدلالة على فرط الشدة وعلى ما لا شيء أدهى منه وأمر لزيادة الإنذار . ويجوز أن يقال : هذه النكتة هي الداعية إلى اختيار البدل على الوصف ، إذا سلكت طريقة الإبدال " انتهى . وقال مكي : " يجوز في " غافر " و " قابل " البدل على أنهما نكرتان لاستقبالهما ، والوصف على أنهما معرفتان لمضيهما " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال فخر الدين الرازي : " لا نزاع في جعل غافر وقابل صفة ، وإنما كانا كذلك لأنهما يفيدان معنى الدوام والاستمرار ، فكذلك " شديد العقاب " يفيد ذلك ; لأن صفاته منزهة عن الحدوث والتجدد فمعناه كونه بحيث شديد عقابه . وهذا المعنى حاصل أبدا لا يوصف بأنه حصل بعد أن لم يكن " .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ : " وهذا كلام من لم يقف على علم النحو ولا نظر فيه ويلزمه أن يكون " حكيم عليم " و مليك مقتدر معارف لتنزيه صفاته عن الحدوث والتجدد ، ولأنها صفات لم تحصل بعد أن لم تكن ، ويكون تعريف صفاته بأل وتنكيرها سواء ، وهذا لا يقوله مبتدئ في علم النحو ، بله أن يصنف فيه ويقدم على تفسير كتاب الله تعالى " انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 457 ] وقد سردت هذه الصفات كلها من غير عاطف إلا " قابل التوب " قال بعضهم : " وإنما عطف لاجتماعهما وتلازمهما وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر ، وقطع " شديد " عنهما فلم يعطف لانفراده " . قال الشيخ : " وفيه نزعة اعتزالية . ومذهب أهل السنة جواز الغفران للعاصي وإن لم يتب إلا الشرك " . قلت : وما أبعده عن نزعة الاعتزال . ثم أقول : التلازم لازم من جهة أنه تعالى متى قبل التوبة فقد غفر الذنب وهو كاف في التلازم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري : " فإن قلت : ما بال الواو في قوله : " وقابل التوب ؟ " قلت : فيها نكتة جليلة : وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين : بين أن يقبل توبته فيكتبها طاعة من الطاعات وأن يجعلها محاءة للذنوب كمن لم يذنب كأنه قال : جامع المغفرة والقبول " انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      وبعد هذا الكلام الأنيق وإبراز هذه المعاني الحسنة . قال الشيخ : " وما أكثر تبجج هذا الرجل وشقشقته والذي أفاد أن الواو للجمع ، وهذا معروف من ظاهر علم النحو " . قلت : وقد أنشدني بعضهم :


                                                                                                                                                                                                                                      3912 - وكم من عائب قولا صحيحا     وآفته من الفهم السقيم



                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر : [ ص: 458 ]

                                                                                                                                                                                                                                      3913 - قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد     وينكر الفم طعم الماء من سقم



                                                                                                                                                                                                                                      والتوب : يحتمل أن يكون اسما مفردا مرادا به الجنس كالذنب ، وأن يكون جمعا لتوبة كتمر وتمرة . و " ذي الطول " نعت أو بدل كما تقدم . والطول : سعة الفضل .

                                                                                                                                                                                                                                      و لا إله إلا هو يجوز أن يكون مستأنفا ، وأن يكون حالا ، وهي حال لازمة ، وقال أبو البقاء : " يجوز أن يكون صفة " ، وعلى هذا ظاهره فاسد ; لأن الجملة لا تكون صفة للمعارف . ويمكن أن يريد أنه صفة لـ " شديد العقاب " لأنه لم يتعرف عنده بالإضافة . والقول في " إليه المصير " كالقول في الجملة قبله ، ويجوز أن يكون حالا من الجملة قبله .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية