آ . (21) قوله : أم حسب : " أم " منقطعة ، فتقدر بـ بل والهمزة ، أو بـ بل وحدها ، أو بالهمزة وحدها . وتقدم تحقيق هذا .
قوله : كالذين آمنوا : هو المفعول الثاني للجعل أي : أن نجعلهم كائنين كالذين آمنوا أي : لا يحسبون ذلك ، وقد تقدم في سورة الحج : أن الأخوين وحفصا قرؤوا هنا " سواء " بالنصب ، والباقون [ ص: 648 ] بالرفع ، ووعدت بالكلام عليه هنا ، فأقول وبالله التوفيق : أما قراءة النصب ففيها ثلاثة أوجه ، أحدها : أن تنتصب على الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور وهما : " كالذين آمنوا " ، ويكون المفعول الثاني للجعل " كالذين آمنوا " أي : أحسبوا أن نجعلهم مثلهم في حال استواء محياهم ومماتهم ليس الأمر كذلك . الثاني : أن يكون " سواء " هو المفعول الثاني للجعل ، و " كالذين " في محل نصب على الحال أي : لن نجعلهم حال كونهم مثلهم سواء ، وليس معناه بذاك . الثالث : أن يكون " سواء " مفعولا ثانيا لـ " حسب " .
وهذا الوجه نحا إليه ، وأظنه غلطا لما سيظهر لك فإنه قال : " ويقرأ بالنصب . وفيه وجهان ، أحدهما : هو حال من الضمير في الكاف أي : نجعلهم مثل المؤمنين في هذه الحال . والثاني : أن يكون مفعولا ثانيا لـ " حسب " والكاف حال ، وقد دخل استواء محياهم ومماتهم في الحسبان ، وعلى هذا الوجه محياهم ومماتهم مرفوعان بـ " سواء " ، لأنه قد قوي باعتماده " انتهى . فقد صرح بأنه مفعول ثان للحسبان . وهذا لا يصح البتة ; لأن " حسب " وأخواتها إذا وقع بعدها " أن " المشددة أو " أن " المخففة أو الناصبة سدت مسد المفعولين ، وهنا قد وقع بعد الحسبان " أن " الناصبة فهي سادة مسد المفعولين ، فمن أين يكون " سواء " مفعولا ثانيا لـ حسب ؟ أبو البقاء
فإن قلت : هذا الذي قلته رأي الجمهور وغيره ، وأما غيرهم سيبويه فيدعي أنها تسد مسد واحد . إذا تقرر هذا فقد يجوز أن كالأخفش ذهب هذا المذهب ، فأعرب " أبا البقاء أن نجعلهم " مفعولا أول و " سواء " مفعولا ثانيا .
[ ص: 649 ] فالجواب : أن صرح بأن المفعول الثاني حينئذ يكون محذوفا . ولئن سلمنا أنه لا يحذف امتنع من وجه آخر : وهو أنه قد رفع به " الأخفش محياهم ومماتهم " لأنه بمعنى مستو كما تقدم ، ولا ضمير يرجع من مرفوعه إلى المفعول الأول ، بل رفع أجنبيا من المفعول الأول . وهو نظير : " حسبت قيامك مستويا ذهابك وعدمه " .
ومن قرأ بالرفع فتحتمل قراءته وجهين ، أحدهما : أن يكون " سواء " خبرا مقدما . و " محياهم " مبتدأ مؤخرا ويكون " سواء " مبتدأ و " محياهم " خبره .
كذا أعربوه . وفيه نظر تقدم في سورة الحج وهو : أنه نكرة لا مسوغ فيها ، وأنه متى اجتمع معرفة ونكرة جعلت النكرة خبرا لا مبتدأ . ثم في هذه الجملة ثلاثة أوجه ، أحدها : أنها استئنافية . والثاني : أنها بدل من الكاف الواقعة مفعولا ثانيا . قال الزمخشري : " لأن الجملة تقع مفعولا ثانيا فكانت في حكم المفرد . ألا تراك لو قلت : أن نجعلهم سواء محياهم ومماتهم ، كان سديدا ، كما تقول : ظننت زيدا أبوه منطلق " . قال الشيخ : " وهذا - أعني إبدال الجملة من المفرد - أجازه ابن جني وابن مالك ، ومنعه [ ص: 650 ] ابن العلج " ، ثم ذكر عنه كلاما كثيرا في تقرير ذلك ثم قال : " والذي يظهر أنه لا يجوز " ، يعني ما جوزه قال : " لأنها بمعنى التصيير ولا يجوز : " صيرت زيدا أبوه قائم " لأن التصيير انتقال من ذات إلى ذات ، أو من وصف في الذات إلى وصف فيها . وتلك الجملة الواقعة بعد مفعول " صيرت " المقدرة مفعولا ثانيا ليس فيها انتقال مما ذكرنا فلا يجوز " . قلت : ولقائل أن يقول : بل فيها انتقال من وصف في الذات إلى وصف فيها ; لأن النحاة نصوا على جواز وقوع الجملة صفة وحالا نحو : مررت برجل أبوه قائم ، وجاء زيد أبوه قائم . فالذي حكموا عليه بالوصفية والحالية يجوز أن يقع في حيز التصيير ; إذ لا فرق بين صفة وصفة من هذه الحيثية . الزمخشري
الثالث : أن تكون الجملة حالا ، التقدير : أم حسب الكفار أن نصيرهم مثل المؤمنين في حال استواء محياهم ومماتهم ، ليسوا كذلك بل هم مفترقون . وهذا هو الظاهر عند الشيخ . وعلى الوجهين الأخيرين تكون الجملة داخلة في حيز الحسبان . وإلى ذلك نحا فإنه قال : " يقتضي هذا الكلام أن لفظ الآية خبر ، ويظهر أن قوله : ابن عطية سواء محياهم ومماتهم داخل في المحسبة المنكرة السيئة ، وهذا احتمال حسن والأول جيد " انتهى . ولم يبين كيفية دخوله في الحسبان ، وكيفية أحد الوجهين الأخيرين : إما البدل وإما الحالية كما عرفته .
وقرأ " سواء " نصبا " محياهم ومماتهم " بالنصب أيضا . فأما " سواء " فمفعول ثان أو حال كما تقدم . وأما نصب " محياهم ومماتهم " ففيه وجهان ، أحدهما : أن يكونا ظرفي زمان ، وانتصبا على البدل من مفعول [ ص: 651 ] " نجعلهم " بدل اشتمال ، ويكون " سواء " على هذا هو المفعول الثاني . والتقدير : أن نجعل محياهم ومماتهم سواء . والثاني : أن ينتصبا على الظرف الزماني . والعامل : إما الجعل أو سواء . والتقدير : أن نجعلهم في هذين الوقتين سواء ، أو نجعلهم مستوين في هذين الوقتين . الأعمش
قال مقدرا لهذا الوجه : " ومن قرأ بالنصب جعل " الزمخشري محياهم ومماتهم " ظرفين كمقدم الحاج وخفوق النجم " .
قال الشيخ : " وتمثيله بخفوق النجم ليس بجيد ; لأن " خفوق " مصدر ليس على مفعل فهو في الحقيقة على حذف مضاف أي : وقت خفوق بخلاف محيا وممات ومقدم فإنها موضوعة على الاشتراك بين ثلاثة معان : المصدرية والزمانية والمكانية . فإذا استعملت مصدرا كان ذلك بطريق الوضع لا على حذف مضاف كخفوق ; فإنه لا بد من حذف مضاف لكونه موضوعا للمصدرية " . وهذا أمر قريب لأنه إنما أراد أنه وقع هذا اللفظ مرادا به الزمان . أما كونه بطريق الأصالة أو الفرعية فلا يضر ذلك .
والضمير في " محياهم ومماتهم " يجوز أن يعود على القبيلين بمعنى : أن محيا المؤمنين ومماتهم سواء عند الله في الكرامة ، ومحيا المجترحين ومماتهم سواء في الإهانة عنده ، فلف الكلام اتكالا على ذهن السامع وفهمه . ويجوز أن يعود على المجترحين فقط . أخبر أن حالهم في الزمانين سواء .
قال أبو البقاء : " ويقرأ " مماتهم " بالنصب أي : في محياهم ومماتهم .
[ ص: 652 ] والعامل " نجعل " أو سواء . وقيل : هو ظرف " . قلت : قوله : " وقيل " هو القول الأول بعينه .
قوله : ساء ما يحكمون قد تقدم إعرابه . وقال هنا : " ما " مصدرية أي : ساء الحكم حكمهم .
ابن عطية