الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  1- موسم الحج:

                  لمـا كانت منافع الحج المشهودة تشمل منافع كثيرة، ومنها ما يحتاج إلى ولاية تنظمه حتى يؤتي ثمـاره؛ غدا من الضرورة الشرعية بمكان تأمير أمير على حجاج بيت الله الحرام، وأصبح ذلك واجبا، وجوبا شرعيا، لينتظم أمر هذا الجمع الغفير، وتستقيم أحوال الحجاج أمنا وسلامة ويسرا، ويتفرغ الناس لأداء الحج في جو روحاني لا تنغصه المنغصات، ولا تذهب منافعه الطارئات.

                  ولإمارة الحج جذور وامتدادات في الحضارة الإسلامية، انطلاقا من الإرث التاريخي السني منذ ما يربو عن أربعة عشر قرنا، ومنذ أن خرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه أميرا على الحج بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم في العام التاسع للهجرة، كما تولاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بشخصه الكريم، فحج صلى الله عليه وسلم بالناس السنة العاشرة (حجة الوداع)، ثم صارت مواكب الخلفاء بعد ذلك تتوالى إلى البيت الحرام في عهد الخلافة الراشدة، وفي عصر بني أمية والعصر العباسي، ثم كانت الدولة العثمانية تشرف على أربع قوافل حج رئيسة، منها قافلة الحج اليمني، التي [ ص: 155 ] تضم حجاج اليمن والهند وماليزيا وإندونيسيا وغيرها من جنوب آسيا، وجنوب شرق آسيا، وكانت هذه القوافل على أهميتها الدينية تنطوي على أبعاد سياسية، حيث اعتبرت الدولة العثمانية انفرادها بإعداد تلك القوافل والإشراف عليها مظهرا من مظاهر السيادة.

                  وربمـا قام الخليفة بنفسه بإمارة الحج، فإن لم يتمكن أناب عنه من يتولى ذلك، وكان هذا شرفا عظيمـا له، حيث تبدأ ولاية أمير الحج عند أول مشاعر الحـج، وتنتهي في الثالث عشر من ذي الحجة، بإقامة الحج، ومن ناحية تسيير الحجاج، فإن ولايته تبدأ منذ خروج الناس إلى الحج، إلى حين عودتهم إلى البلد.

                  أ- مسلمو تايلاند وفريضة الحج [1] :

                  ربمـا يرجع تاريخ أداء مسلمي تايلاند فريضة الحج إلى القرن الخامس عشر الميلادي، باقتران دخول الإسلام إلى هذه الديار وانتشاره عن طريق التجار العرب المسلمين، وفي الفترة ما بين القرن السادس عشر والسابع عشر الميلاديين كانت هذه الديار، وفي المناطق الجنوبية منها على وجه الخصوص، مزدهرة ومشتهرة بحضارتها الإسلامية.

                  وكانت وسائل رحلة الحجاج من تايلاند إلى الحج تختلف من عصر إلى عصر، إذ كانت رحلة حجاج المحافظات الجنوبية تتم بالناقلات البحرية، التي [ ص: 156 ] تنقلهم من محافظة ناراتيوات، وتستغرق أياما عديدة، وجرى ذلك حتى السبعينيات من القرن العشرين، لمـا سخر الله لعباده الحجاج وسيلة أسرع وأريح، فكانت الملاحة الجوية، التي تقلهم من المطارات الدولية في هادياي، وفوكيت، والعاصمة بانكوك، وشيانجماي.

                  وفي أواخر القرن العشرين الميلادي، وبالتحديد عام 1998م، مع صدور الدستور الوطني المسمى بالدستور الشعبي، الذي منح الحرية للمسلمين لممارسة شعائرهم الدينية؛ ومنها ما له صلة بشعيرة الحج، حيث أولت الحكومة التايلاندية اهتماما بالغا بحق المسلمين في أداء فريضة الحج، فأصدرت القوانين وسنت اللوائح تجاه هذه العبادة وما يرتبط بها، عبر إمارة الحج باسم (بعثة الحج التايلاندية الرسمية) سنويا.

                  ب- تجربة إمارة الحج التايلاندية [2] :

                  وظائف أمير الحج في الثقافة والحضارة الإسلامية الأصيلة، من حيث الولاية على الحج، على ضربين:

                  أولهمـا: الإمارة على تسيير الحجيج، وذلك بجمع الناس في مسيرهم ونزولهم خشية التفرق، وترتيبهم في المسير والنزول بإعطاء كل طائفة منهم مقادا، حـتى يعرف كل فريق منهم مقاده إذا سار، ويألف مكانه إذا نزل، [ ص: 157 ] فلا يتنازعون فيه ولا يضلون عنه؛ ويرفق بهم في السير حتى لا يعجز عنه ضعيفهم، ولا يضل عنه منقطعهم؛ وأن يسلك بهم أوضح الطرق وأخصبها، ويتجنب أجدبها وأوعرها؛ وأن يرتاد لهم المياه إذا انقطعت، والمراعي إذا قلت؛ وأن يمنع عنهم من يصدهم عن المسير؛ وأن يصلح بين المتشاجرين، ويتوسط بين المتنازعين؛ وأن يقوم زائغهم؛ ثم يراعي اتساع الوقت حتى يؤمن الفوات، ولا يلجئهم ضيقه إلى الحث في السير، فإذا وصل إلى الميقات أمهلهم للإحرام وإقامة سننه.

                  ثانيهمـا: الإمارة على إقامة الحج، حيث أمير الحج فيه بمنزلة الإمام في إقامة الصلوات، بالشروط المعتبرة في أئمة الصلوات: أن يكون عالمـا بمناسك الحج وأحكامه، عارفا بمواقيته وأيامه، وتكون مدة ولايته مقدرة بسبعة أيام: أولها من صلاة الظهر في اليوم السابع من ذي الحجة، وآخرها يوم الثالث عشر من ذي الحجة، وذلك بإشعار الحجاج بوقت إحرامهم، والخروج إلى مشاعرهم، ليـكونوا له متبعـين، وبأفعـاله مقتدين، وترتيبهم للمناسك على ما استقر الشرع عليه؛ لأنه متبوع فيها، فلا يقدم مؤخرا ولا يؤخر مقدما، سواء كان الترتيب مستحقا أو مستحبا.

                  وفي ضوء هذا التنظير في الإرث الإسلامي الثقافي والحضاري، تشكلت إمارة الحج التايلاندية، وتم اختيار فضيلة الدكتور إسماعيل لطفي جافاكيا أميرا على جماعة الحج التايلاندية. [ ص: 158 ]

                  ج- ليشهدوا منافع لهم:

                  في عام 1430هـ، أفادت وزارة التجارة التايلاندية من منافع الحج، في محاولة للنهوض بالأمة والاستفادة من خيراتها، وذلك باستغلال منافع الحج للتعريف بالسلع، التي يستهلكها الحجاج، وما بها من مزايا وما تحمله من مواصفات وأسعار، والعمل لاحقا على إنتاجها وتسويقها، والتعارف مع الأجناس الأخرى لمعرفة طبيعة أسواقهم وأهم منتجاتهم ومميزاتها وأسعارها، ومن خلال ذلك يمكن التوجه نحو تصدير ما تحتاجه تلك الدول واستيراد ما تحتاجه السوق المحلية من منتجاتهم مع مراعاة عاملي السعر والجودة.

                  وقد أدركت الحـكومة التايلاندية أهمية الجودة والكفاءة، حرصا منها على إيجاد النقلة النوعية لممارسة شعيرة الحج والارتقاء بخدمات الحجاج من رعاياها، وتطوير آلياتها بمواصفات الجودة العالمية على نطاق أوسع لزوار وعمار وحجاج بيت الله الحرام من تايلاند؛ تلبية لاحتياجات شركات حملات الحج والعمرة، ضمن المتطـلبات التقنية في عصر الانفتاح والتبادل السريع للمعلومات، الأمر الذي مكن مؤخرا من تسجيل أسماء الحجاج آليا عبر "On line System" لدى إدارة شؤون الديانة بوزارة الثقافة التايلاندية.

                  فغدت العلاقات الثقافية والحضارية، التي جاءت ثمرة لتفاعل مسلمي تايلاند مع إخوانهم المسلمين في موسم الحج، تشكل في جوهرها رصيدا لحضـارة وثقافة الأمة الإسلامية، يمكن استثماره جيدا في التعامل مع الحكومة ومع المنظمات الرسمية والشعبية في تايلاند، من أجل تحسين أوضاع [ ص: 159 ] المسلمين فيها، في إطار العلاقات الديبلوماسية القائمة بين تايلاند وبين بلدان العالم الإسلامي.

                  ولا بد من الإشارة هنا إلى أن من أهم مناشط مؤسسة السلام بجامعة فطاني، تسيير قوافل ضيوف الرحمن إلى الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة، بالتعاون مع جهات وأطراف عدة، على المستويين الحكومي والشعبي، لدول الخليج العربية، خاصة قطر والسعودية والإمارات.

                  د- دور الحجاج في نقل الثقافة وفنون العمـارة الإسلامية:

                  مما لاشك فيه أن اختلاف الحجاج إلى مكة المكرمة وإلى المدينة المنورة في كل عام وأداءهم الصلاة في المدن والقرى، التي كانوا يمرون بها، ساعد على محاكاة مساجد الحجاز [3] .

                  وهؤلاء الحجاج، يرجعون إلى بلدانهم بعد أداء فريضة الحج، وهم يحملون معهم انطباعات كثيرة عن المظاهر، التي شاهدوها في البلاد العربية الإسلامية، التي مروا بها أثناء رحلة الحج، وبمـا أن رحلتهم رحلة عبادة خالصة، فإن أهم المحطات، التي يتوقفون عندها هي المساجد، فيتأثرون بمـا يرونه فيها من أشكال هندسية وزخارف وخطوط، وحتى حركة المصلين ولباسهم، التي قد تكون جديدة بالنسبة لمن حل لأول مرة في بلاد العرب، ويتجلى ذلك بوضوح في [ ص: 160 ] تغير الكثير من السلوك اليومي للحجاج بعد عودتهم من مكة المكرمة، وهذا كله ينعكس على عمارة المساجد لدى المسلمين في تايلاند، خاصة أن أفواجا منهم يتوجهون كل سنة إلى البيت العتيق لأداء فريضة الحج.

                  ويلاحظ أن الكثير من الحجاج بعد عودتهم إلى ديارهم يغـيرون لباسهم التقليدي باللباس العربي، فتجدهم يرتدون الثوب العربي الأبيض الطويل والغترة، على غرار ما شاهدوه في الجزيرة العربية، خاصة في أيام الجمع والعيدين.

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية