الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  4- إسلام مملكة:

                  إن قصة مملكة فطاني الإسلامية لا تكتمل إلا بالوقوف على ظرف دخول الإسلام إلى هذه المملكة [1] .

                  تقول القصة

                  [2] : [ ص: 63 ]

                  إن ملك فطاني الوثني مرض مرضا شديدا، تشقق به كل جلده (أي أصيب بالبرص)، وأعيا جميع الأطباء شفاؤه.. فـأرسـل في جميع أقـالـيـم مـمـلـكتـه مبعوثيه يـضـربـون عـلى طـبـلـة "غونغ"؛ ليبلغوا الرعيـة بمرضـه، وأن من اسـتطاع عـلاجـه، فإن الملك سـيـكافـئه بتزويجه ابنته الأميرة. وبعد يأس، وصل الطبالون إلى قرية فاساي، وكان بها مسلمون، وكان فيها عالم داعية اسمه الشيخ سعيد (صفي الدين). حين سمع الشيخ بمقولة الطبالين قال لرئيسهم: "ارجع، وقل للملك إني لا أرغب في مصاهرته، ولكن إذا رغب الملك في اعتناق الإسلام، فسأداويه من مرضه".

                  وبذلك، فإن الشيخ باشتراطه إسلام الملك، يخفف عنه مؤونة التضحية بابنته، وبولاية العهد إلى غريب بعيد.

                  ولم يكد الملك يسمع بخبر هذا الشيخ حتى استعجل حضوره، وبعد تأكيد الشرط، وتوثيق العهد؛ عالجه الشيخ، فتعافى بإذن الله خلال أيام محدودة، عاد بعدها الشيخ إلى قريته.

                  ويمضي عام، فعامان على هذه الحادثة دون أن يفي الملك بوعده، الذي قطعه للشيخ، ولكن هذا الداعية الحصيف ظل صامتا، يعذره لمـا علم من وطأة التقاليد، وقوة المعتقدات الوثنية الهندوسية عليه، وهو - بعد - ليس إسلامه إسلاما عابرا، وأمرا شخصيا، ولكن إسلامه يعني إسلام مملكة وشعب.

                  ثم يشاء الله القدير أن يمرض الملك ثانية، ويقطع عهدا للشيخ أنه سيسلم إذا تعافى من مرضه، وهنا لقن الشيخ الملك حقيقة غائبة.. قال له: "إذا كنتم [ ص: 64 ] مخلصين في وعدكم، فإنني سأعالج جلالتكم، ولكن إذا لم تكونوا صادقين في كلامكم، فإن علاجي لن ينفعكم".

                  حقيقة تبرز مدى توكل هذا الداعية على ربه، وثقته به، وتجرده عن كل رياء؛ إذ ناط شفاء الملك بمدى صدقه في الوعد، وذكره أنه -أي الشيخ- مجرد وسيلة، وأن هناك قوة ربانية هي التي تمنح الشفاء.

                  ويبدو أن الملك كان صادقا مع نفسه في تلك اللحظة؛ إذ عالجه الشيخ سعيد لعدة أيام، تعافى بعدها؛ فاستأذنه الشيخ بالعودة إلى بلدته.

                  مضى عام آخر، وعاد المرض مرة ثالثة، وهو أشد وطأة من ذي قبل، وحين جاء مبعوث الملك إلى الشيخ سعيد، قال له: "ارجع إلى الملك وأخبره أنني لن أداويه أيضا؛ لأنه لم يف لي بوعوده". حين أبلغ الملك كلام الشيخ سعيد، أوفد إليه كبير حجابه يستعطفه ويقول له: "إذا عوفيت هذه المرة، فإنني لن أخلف وعدي، وحق آلهتي إن خالفت وعدي، فلا عوفيت بعد ذلك أبدا"...

                  هكذا، حين قدم الشيخ لمعالجة الملك، أكد له الوعد مرة أخرى، وذكره أنه لن يعالجه بعد هذه المرة إن هو أصر على عدم اعتناق الإسلام: "إنني لن أعالجكم بعد ذلك إذا مرضتم، ولو عزمتم قتلي، فأنا راض بذلك".

                  لم يمض أكثر من شهر على علاجه وشفائه، إلا وجمع الملك وزراءه وقواده، والـكهنة والخدم بالقـصر، وأطلعهم على عزمه في اعتناق الإسـلام.. ولم يواجه باستنكار ظاهر منهم.

                  أرسل إلى الشيخ سعيد؛ فجاءه، وحين علم الشيخ بعزم الملك على الوفاء بوعده، استبشر، ولقنه كلمة الشهادة، ولقنها كذلك القواد والكهنة والخدم. [ ص: 65 ]

                  وعرض على الملك أن يختار لنفسه اسمـا إسلاميا، وهنا فوض الملك الأمر إلى الشيخ؛ فاختار له اسم (السلطان إسماعيل شاه)، وبوصفه أبا رحيمـا يحمل هم أبنائه، فإن الملك طلب من الشيخ أن يعطيهم أسماء إسلامية، حتى يكمل إسلامه، وكان له ثلاثة أبناء، سمى الشيخ سعيد الأول: السلطان مظفر شاه، والبنت الوسطى: سيتي عائشة، والأصغر: السلطان منصور شاه، ثم عين الملك الشيخ سعيد صفي الدين مفتيا عاما في فطاني، وقام مدة ينشر الدعوة الإسلامية بين أهـل القصر الملكي وكبار رجـالات الدولة حتى أسلموا جميعا، ثم تبعهم الشعب، فأسلموا كلهم. ثم تمكن الإسلام في قلوب ملوكها وشعبها، وأصبح الإسلام هو المسيطر على حياة الناس، وأزيلت المظاهر المخالفة للإسلام في فطاني، فأصبح الدين الإسلامي هو دين الدولة الرسمي آنذاك [3] . حيث ترصد بقية فصول القصة تحول هذه المملكة الوثنية إلى الإسلام في مظاهرها السياسية والثقافية والاجتماعية.

                  بالإجمال، فإن إسلام ملك فطاني وحاشيته كان الانطلاقة الأولى للمسيرة الحضارية الإسلامية، وكانت تلك الانطلاقة بتوفيق الله I، ثم بحصافة داعية فذ يتحلى بالحكمة والصبر والأناة. [ ص: 66 ]

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية