الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القسم الثاني " مجتهد في مذهب إمامه ، أو إمام غيره " ، وأحواله أربعة :

الحالة الأولى : أن يكون غير مقلد لإمامه في الحكم والدليل ، لكن سلك [ ص: 260 ] طريقه في الاجتهاد والفتوى ، ودعا إلى مذهبه ، وقرأ كثيرا منه على أهله فوجده صوابا وأولى من غيره ، وأشد موافقة فيه وفي طريقه ، قال ابن حمدان في " آداب المفتي " وقد ادعى هذا منا ابن أبي موسى ، في شرح الإرشاد الذي له ، والقاضي أبو يعلى ، وغيرهما عن الشافعية خلق كثير ، قلت : ومن أصحاب الإمام أحمد رضي الله عنه ، فمن المتأخرين : كالمصنف ، والمجد ، وغيرهما ، وفتوى المجتهد المذكور ، كفتوى المجتهد المطلق في العمل بها ، والاعتداد بها في الإجماع والخلاف . الحالة الثانية : أن يكون مجتهدا في مذهب إمامه ، مستقلا بتقريره بالدليل ، لكن لا يتعدى أصوله وقواعده ، مع إتقانه للفقه وأصوله ، وأدلة مسائل الفقه ، عالما بالقياس ونحوه ، تام الرياضة ، قادرا على التخريج والاستنباط ، وإلحاق الفروع بالأصول والقواعد التي لإمامه ، وقيل : ليس من شرط هذا معرفة علم الحديث ، واللغة العربية لكونه يتخذ نصوص إمامه أصولا يستنبط منها الأحكام ، كنصوص الشارع ، وقد يرى حكما ذكره إمامه بدليل ، فيكتفي بذلك ، من غير بحث عن معارض أو غيره ، وهو بعيد ، [ ص: 261 ] وهذا شأن أهل الأوجه والطرق في المذاهب ، وهو حال أكثر علماء الطوائف الآن ، فمن علم يقينا هذا ، فقد قلد إمامه دونه ; لأن معوله على صحة إضافة ما يقول إلى إمامه ; لعدم استقلاله بتصحيح نسبته إلى الشارع بلا واسطة إمامه ، والظاهر : معرفته بما يتعلق بذلك من حديث ، ولغة ، ونحو ، وقيل : إن فرض الكفاية لا يتأدى به ; لأن في تقليده نقصا وخللا في المقصود ، وقيل : يتأدى به في الفتوى ، لا في إحياء العلوم التي تستمد منها الفتوى ; لأنه قد قام في فتواه مقام إمام مطلق ، فهو يؤدي عنه ما كان يتأدى به الفرض حين كان حيا قائما بالفرض منها ، وهذا على الصحيح في جواز تقليد الميت ، ثم قد يوجد من المجتهد المقيد استقلال بالاجتهاد والفتوى في مسألة خاصة ، أو باب خاص ، ويجوز له أن يفتي فيما لم يجده من أحكام الوقائع منصوصا عليه عن إمامه ، لما يخرجه على مذهبه ، وعلى هذا العمل ، وهو أصح .

فالمجتهد في مذهب الإمام أحمد رضي الله عنه مثلا : إذا أحاط بقواعد مذهبه ، وتدرب في مقاييسه وتصرفاته : ينزل من الإلحاق بمنصوصاته وقواعد مذهبه منزلة المجتهد المستقل في إلحاقه ما لم ينص عليه الشارع بما نص عليه ، وهذا أقدر على ذا من ذاك على ذاك ، فإنه يجد في مذهب إمامه قواعد ممهدة ، وضوابط مهذبة ، ما لا يجده المستقل في أصول الشارع ونصوصه ، [ ص: 262 ] وقد سئل الإمام أحمد رضي الله عنه عمن يفتي بالحديث : هل له ذلك ، إذا حفظ أربعمائة ألف حديث ؟ فقال : أرجو ، فقيل لأبي إسحاق بن شاقلا : فأنت تفتي ، ولست تحفظ هذا القدر ؟ فقال : لكني أفتي بقول من يحفظ ألف ألف حديث ، يعني الإمام أحمد رضي الله عنه ، ثم إن المستفتى فيما يفتي به من تخريجه هذا مقلد لإمامه ، لا له ، وقيل : ما يخرجه أصحاب الإمام على مذهبه : هل يجوز أن ينسبوه إليه ، وأنه مذهبه ؟ فيه لنا ولغيرنا خلاف ، وتفصيل . والحاصل : أن المجتهد في مذهب إمامه : هو الذي يتمكن من التفريع على أقواله ، كما يتمكن المجتهد المطلق من التفريع على كل ما انعقد عليه الإجماع ، ودل عليه الكتاب والسنة والاستنباط ، وليس من شرط المجتهد : أن يفتي في كل مسألة ، بل يجب أن يكون على بصيرة في كل ما يفتي به ، بحيث يحكم فيما يدري ، ويدري : أنه يدري ، بل يجتهد المجتهد في القبلة ، ويجتهد العامي فيمن يقلده ويتبعه ، فهذه صفة المجتهدين أرباب الأوجه والتخاريج والطرق ، [ ص: 263 ] وقد تقدم صفة تخريج هذا المجتهد وأنه : تارة يكون من نصه ، وتارة يكون من غيره قبل أقسام المجتهد محررا . الحالة الثالثة أن لا يبلغ به رتبة أئمة المذهب أصحاب الوجوه والطرق ، غير أنه فقيه النفس ، حافظ لمذهب إمامه ، عارف بأدلته ، قائم بتقريره ، ونصرته ، يصور ، ويحرر ، ويمهد ، ويقوي ، ويزيف ، ويرجح ، لكنه قصر عن درجة أولئك إما لكونه لم يبلغ في حفظ المذهب مبلغهم وإما لكونه غير متبحر في أصول الفقه ونحوه على أنه لا يخلو مثله في ضمن ما يحفظه من الفقه ويعرفه من أدلته عن أطراف من قواعد أصول الفقه ونحوه ، وإما لكونه مقصرا في غير ذلك من العلوم التي هي أدوات الاجتهاد الحاصل لأصحاب الوجوه والطرق ، وهذه صفة كثير من المتأخرين الذين رتبوا المذاهب ، وحرروها ، وصنفوا فيها تصانيف ، بما يشتغل به الناس اليوم غالبا ، ولم يلحقوا من يخرج الوجوه ، ويمهد الطرق في المذاهب ، وأما فتاويهم : فقد كانوا يستنبطون فيها استنباط أولئك أو نحوه ويقيسون غير المنقول والمسطور على المنقول والمسطور نحو قياس المرأة على الرجل في رجوع البائع إلى عين ماله عند تعذر الثمن ، ولا تبلغ فتاويهم فتاوى أصحاب الوجوه ، وربما تطرق بعضهم إلى تخريج قول ، واستنباط وجه ، أو احتمال ، وفتاويهم مقبولة . الحالة الرابعة : أن يقوم بحفظ المذهب ، ونقله وفهمه ، فهذا يعتمد نقله وفتواه به فيما يحكيه من مسطورات مذهبه : من منصوصات [ ص: 264 ] إمامه ، أو تفريعات أصحابه المجتهدين في مذهبه ، وتخريجاتهم ، وأما ما لا يجده منقولا في مذهبه : فإن وجد في المنقول ما هذا معناه ، بحيث يدرك من غير فضل فكر وتأمل أنه لا فارق بينهما كما في الأمة بالنسبة إلى العبد المنصوص عليه في إعتاق الشريك : جاز له إلحاقه به والفتوى به ، وكذلك ما يعلم اندراجه تحت ضابط ، ومنقول ممهد محرر في المذهب ، وما لم يكن كذلك : فعليه الإمساك عن الفتيا فيه ، ومثل هذا يقع نادرا في حق مثل هذا المذكور ، إذ يبعد أن تقع [ واقعة ] حادثة لم ينص على حكمها في المذهب ، ولا هي في معنى بعض المنصوص عليه من غير فرق ، ولا مندرجة تحت شيء من قواعد وضوابط المذهب المحرر فيه ، ثم إن هذا الفقيه : لا يكون إلا فقيه النفس ; لأن تصوير المسائل على وجهها ، ونقل أحكامها بعده : لا يقوم به إلا فقيه النفس ، ويكفي استحضاره أكثر المذهب ، مع قدرته على مطالعة بقيته قريبا .

التالي السابق


الخدمات العلمية