الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5208 ص: حدثنا عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم ، قال: ثنا أسد بن موسى ، قال: ثنا يحيى بن زكرياء، قال: ثنا داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لما كان يوم بدر قال رسول الله -عليه السلام-: من فعل كذا وكذا فله كذا وكذا، فذهب شبان الرجال وجلست الشيوخ تحت الرايات، فلما كانت القسمة جاءت الشبان يطلبون نفلهم، فقالت الشيوخ: لا تستأثروا علينا؛ فإنا كنا تحت الرايات ولو انهزمتم كنا ردءا لكم، فأنزل الله - عز وجل -: يسألونك عن الأنفال فقرأ حتى بلغ: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يقول: أطيعوني في هذا الأمر كما رأيتم عاقبة أمري حيث خرجتم وأنتم كارهون، فقسم بينهم بالسواء".

                                                [ ص: 280 ] ففي هذا الحديث منع رسول الله -عليه السلام- الشبان ما كان جعله لهم.

                                                ففي هذا دليل على أن الأسلاب لا تجب للقاتلين، ولولا ذلك لما منعهم منها، ولأعطاهم أسلاب من استأثروا نفله دون من سواهم ممن تخلف منهم.

                                                التالي السابق


                                                ش: ذكر هذا أيضا شاهدا لما قاله أهل المقالة الثانية من أن السلب لا يجب للقاتل لقتله؛ وذلك لأن حديث ابن عباس يدل على ذلك صريحا، وقد أوضحه الطحاوي فلا يحتاج إلى زيادة كشف.

                                                وأخرجه بإسناد صحيح: عن عبد الله بن محمد بن سعيد ... إلى آخره.

                                                وأخرجه أبو داود: ثنا وهب بن بقية، قال: أنا خالد ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر: من فعل كذا وكذا فله من النفل كذا وكذا قال: فتقدم الفتيان، ولزم المشيخة الرايات فلم يبرحوها، فلما فتح الله عليهم قالت المشيخة: كنا ردءا لكم لو انهزمتم فئتم إلينا، فلا تذهبوا بالمغنم ونبقى، فأتى الفتيان وقالوا: جعله رسول الله -عليه السلام- لنا، فأنزل الله - عز وجل -: يسألونك عن الأنفال إلى قوله: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يقول: فكان ذلك خيرا لهم فكذلك أيضا، "فأطيعوني فإني أعلم بعاقبة هذا منكم".

                                                قال: ثنا زياد بن أيوب، ثنا هشيم، قال: أنا داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس: "أن النبي -عليه السلام- قال يوم بدر: من قتل قتيلا فله كذا وكذا، ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا..." ثم ساق نحوه. وحديث خالد أتم.

                                                قال: ثنا هارون بن محمد بن بكار بن بلال، قال: ثنا يزيد بن خالد بن موهب الهمداني، قال: ثنا يحيى بن أبي زائدة، قال: أخبرني داود بهذا الحديث بإسناده.

                                                [ ص: 281 ] قال: "فقسمها رسول الله -عليه السلام- بالسواء" وحديث خالد أتم.

                                                وأخرجه النسائي في "التفسير": عن الهيثم من أيوب الطالقاني ، عن المعتمر بن سليمان ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة نحوه.

                                                قوله: "من فعل كذا وكذا فله كذا وكذا" قد فسره في رواية أبي داود بقوله: "من قتل قتيلا فله كذا وكذا، ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا".

                                                قوله: "لا تستأثروا علينا" أي لا تختصوا أنفسكم بالنفل.

                                                قوله: "كنا ردءا" أي: عونا لكم، والردء - بكسر الراء وسكون الدال وفي آخره همزة -: العون والناصر.

                                                و: "المشيخة" في رواية أبي داود - بفتح الميم -: جمع شيخ.

                                                قال الجوهري: جمع الشيخ شيوخ وأشياخ وشيخة وشيخان ومشيخة ومشايخ ومشيوخاء والمرأة: شيخة.

                                                قوله: "فئتم إلينا" أي: رجعتم إلينا، من الفيء وهو: الرجوع.

                                                ويستفاد منه أحكام:

                                                الأول: فيه دليل واضح على أن الأسلاب لا تجب للقاتلين؛ إذ لو كان كذلك لأعطى رسول الله -عليه السلام- الشبان إياها يوم بدر؛ فحيث قسم بين الشبان الذين قاتلوا وبين الشيوخ الذين لزموا الرايات بالسواء؛ دل على أن الأسلاب لا تجب للقاتلين.

                                                الثاني: أن قوله تعالى: يسألونك عن الأنفال الآيات نزل يوم بدر لما اختصموا في الأنفال، وقد اختلف في سبب نزول الآية، فروي عن سعد قال: "أصبت يوم بدر سيفا، فأتيت به النبي -عليه السلام-، فقلت: نفلنيه، فقال: ضعه من أين

                                                [ ص: 282 ] أخذت، فنزلت: يسألونك عن الأنفال فدعاني رسول الله -عليه السلام- وقال: اذهب فخذ سيفك".


                                                وروى معاوية بن صالح ، عن أبي طلحة، عن ابن عباس: يسألونك عن الأنفال قل الأنفال قال: الأنفال الغنائم التي كانت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاصة ليس لأحد فيها شيء، ثم أنزل الله: واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول الآية..".

                                                وقال ابن جريج : أخبرني بذلك سليمان ، عن مجاهد .

                                                وروى عبادة بن الصامت وابن عباس وغيرهما: "أن النبي -عليه السلام- نفل يوم بدر أنفالا مختلفة، وقال: من أخذ شيئا فهو له، فاختلفت أصحابه، فقال بعضهم: نحن قاتلنا، وقال بعضهم: نحن حمينا رسول الله -عليه السلام- وكنا ردءا لكم، قال: فلما اختلفنا وساءت أخلاقنا انتزعه الله من بين أيدينا وجعله إلى رسول الله -عليه السلام- فقسمه عن الخمس، وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله -عليه السلام- وصلاح ذات البين، لقوله تعالى: يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول قال عبادة: قال رسول الله -عليه السلام-: ليرد قوي المسلمين على ضعيفهم".

                                                ويقال: إن الذي ذكر في حديث ابن عباس وعبادة أن النبي -عليه السلام- قال يوم بدر قبل القتال: من أخذ شيئا فهو له، ومن قتل قتيلا فله كذا؛ غلط، وإنما قال النبي -عليه السلام- يوم حنين: "من قتل قتيلا فله سلبه"؛ وذلك لأنه قد روي: "لم تحل الغنائم لقوم سود الرءوس غيركم"، وأن قوله: يسألونك عن الأنفال يقال: نزلت بعد حيازة غنائم بدر، فعلمنا أن رواية من روى أن النبي -عليه السلام- نفلهم ما أصابوا قبل القتال غلط إذ كانت إباحتها إنما كانت بعد القتال.

                                                قال أبو بكر الجصاص - رحمه الله -: ومما يدل على غلطه: أنه قال: من أخذ شيئا فهو

                                                [ ص: 283 ] له، ومن قتل قتيلا فله كذا، ثم قسمها بينهم بالسواء؛ وذلك لأنه غير جائز على النبي -عليه السلام- خلف الوعد ولا استرجاع ما جعله لإنسان وأخذه منه وإعطاؤه غيره، والصحيح أنه لم يتقدم من النبي -عليه السلام- قول في الغنائم قبل القتال، فلما فرغوا من القتال وتنازعوا في الغنائم؛ أنزل الله - عز وجل -: يسألونك عن الأنفال فجعل أمرها إلى النبي -عليه السلام- في أن يجعلها لمن يشاء، فقسمها بينهم بالسواء، ثم نسخ ذلك بقوله: واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول على ما روي عن ابن عباس ومجاهد؛ فجعل الخمس لأهله وللمسلمين في الكتاب والأربعة الأخماس للغانمين، وبين النبي -عليه السلام- سهم الفارس والراجل وبقي حكم النفل قبل إحراز الغنيمة بقوله: "من قتل قتيلا فله سلبه، ومن أصاب سبيا فهو له".

                                                قلت: القول المذكور بأن ما في حديث عبادة وابن عباس: "أن النبي -عليه السلام- قال يوم بدر..." إلى آخره غلط غير صحيح؛ لأن الحديث المذكور أخرجه أبو داود بطرق صحيحة، وأخرجه الطحاوي كذلك، وتعليلهم بقولهم لأنه غير جائز على النبي -عليه السلام- خلف الوعد... إلى آخره، غير صحيح؛ لأن الطحاوي قد تعرض إلى ذلك بقوله: فإن قال قائل: فما وجه منعه -عليه السلام- إياهم... إلى آخره.

                                                ثم أجاب عن ذلك بجواب يقطع شغب هؤلاء، ويرد ما ذكروه على ما يأتي الآن إن شاء الله تعالى.

                                                الثالث: فيه جواز التحريض للإمام بعض الغزاة المقاتلين الشجعان وحثهم على القتال بقوله: "من فعل كذا فله كذا".




                                                الخدمات العلمية