الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5174 5175 5176 ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا يونس ، قال: ثنا سفيان ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن الصعب بن جثامة -رضي الله عنهم- قال: " سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أهل الديار من المشركين يبيتون ليلا فيصاب من نسائهم وذراريهم، فقال: هم منهم".

                                                [ ص: 229 ] حدثنا ابن مرزوق ، قال: ثنا بشر بن عمر ، قال: ثنا حماد بن زيد ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس ، عن الصعب بن جثامة ، قال: "قيل: يا رسول الله، أوطأت خيلنا أولادا من أولاد المشركين، فقال رسول الله -عليه السلام-: هم من آبائهم".

                                                حدثنا أبو أمية ، قال: ثنا سريج بن النعمان ، قال: ثنا ابن أبي الزناد ، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن الصعب بن جثامة قال: " قلنا: يا رسول الله، الدار من دور المشركين نصبحها في الغارة فنصيب الولدان تحت بطون الخيل ولا نشعر؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إنهم منهم".

                                                فلما لم ينههم رسول الله -عليه السلام- عن الغارة وقد كانوا يصيبون فيها الولدان والنساء الذين يحرم القصد إلى قتلهم؛ دل ذلك أن ما أباح في هذه الآثار لمعنى غير المعنى الذي من أجله حظر ما حظر في الآثار الأول، وأن ما حظر في الآثار الأول هو القصد إلى قتل النساء والولدان، والذي أباح هو القصد إلى المشركين وإن كان في ذلك تلف غيرهم ممن لا يحصل القصد إلى تلفه؛ حتى تصح هذه الآثار المروية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا تتضاد، وقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالإغارة على العدو، وأغار على آخرين في آثار عدد قد ذكرناها في باب: "الدعاء قبل القتال" ولم يمنعه من ذلك ما يحيط علمنا أنه قد كان يعلم أنه لا يؤمن تلف الولدان والنساء في ذلك، ولكنه أباح ذلك لهم؛ لأن قصدهم كان إلى غير تلفهم فهذا يوافق معنى الذي ذكرت مما في حديث الصعب. ،

                                                والنظر يدل على ذلك أيضا.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث الصعب بن جثامة فإنه يخبر أنه -عليه السلام- لم ينههم عن الإغارة، والحال أنهم قد كانوا يصيبون في غاراتهم الولدان والنساء الذين حرم -عليه السلام- القصد إلى قتلهم، فدل هذا أن الذي منع في الأحاديث التي احتجت بها أهل المقالة الأولى هو القصد إلى قتلهم، والذي في حديث الصعب هو القصد إلى قتل المشركين وإن كان في ضمن ذلك تلف الولدان والنساء، فبهذا المعنى حصل التوافق بين أحاديث هذا الباب وارتفع التضاد الظاهر.

                                                [ ص: 230 ] وأخرج حديث الصعب من ثلاث طرق:

                                                الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم ، عن سفيان بن عيينة ، عن محمد بن مسلم الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله - بتصغير الابن وتكبير الأب - ابن عتبة بن مسعود المدني الفقيه الأعمى ، عن عبد الله بن عباس ، عن الصعب بن جثامة الليثي الحجازي -رضي الله عنه-.

                                                وأخرجه الجماعة، فقال البخاري: ثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، ثنا الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس ، عن الصعب بن جثامة قال: "مر بي النبي -عليه السلام- بالأبواء - أو بودان - وسئل عن أهل الدار يبيتون من المشركين فيصاب من نسائهم وذراريهم، قال: هم منهم".

                                                وقال مسلم: ثنا يحيى بن يحيى وسعيد بن منصور وعمرو الناقد جميعا، عن ابن عيينة - قال يحيى: أنا سفيان بن عيينة - عن الزهري ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس ، عن الصعب بن جثامة قال: "سئل رسول الله -عليه السلام- عن الذراري من المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم، فقال: هم منهم".

                                                وقال أبو داود: ثنا أحمد بن عمرو بن السرح، قال: ثنا سفيان ، عن الزهري ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس ، عن الصعب بن جثامة: "أنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الدار من المشركين يبيتون فيصاب من ذراريهم ونسائهم، قال النبي -عليه السلام-: هم منهم، وكان عمرو: يعني ابن دينار يقول: هم من آبائهم. قال الزهري: ثم نهى رسول الله -عليه السلام- بعد ذلك عن قتل النساء والولدان".

                                                وقال الترمذي: ثنا نصر بن علي الجهضمي، قال: ثنا سفيان بن عيينة ، عن

                                                [ ص: 231 ] الزهري ، عن عبيد الله ، عن عباس، قال: أخبرني الصعب بن جثامة قال: "قلت: يا رسول الله، إن خيلنا أوطأت من نساء المشركين وأولادهم. قال: هم من آبائهم".

                                                قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

                                                وقال النسائي: أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن والحارث بن مسكين - قراءة عليه وأنا أسمع - أنا سفيان... إلى آخره نحوه.

                                                وقال ابن ماجه: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، عن سفيان بن عيينة ، عن الزهري ... إلى آخره نحوه.

                                                الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق ، عن بشر بن عمر الزهراني ، عن حماد بن زيد ، عن عمرو بن دينار ... إلى آخره.

                                                وأخرجه الطبراني: ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا حجاج بن المنهال وعارم أبو النعمان، قالا: ثنا حماد بن زيد، أنا عمرو بن دينار ، عن ابن عباس قال: "قالوا: يا رسول الله، إن خيلنا أوطأت أولادا من أولاد المشركين، فقال رسول الله -عليه السلام-: هم من آبائهم" ولم يذكر الزهري ولا عبيد الله ولا الصعب .

                                                وأخرجه عبد الرزاق: عن ابن جريج ، عن عمرو بن دينار، أن ابن شهاب أخبره، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن الصعب بن جثامة: "أن النبي -عليه السلام- قيل له: لو أن خيلا أغارت من الليل فأصابت من أبناء المشركين؟ قال: هم من آبائهم".

                                                وأحرجه مسلم: عن محمد بن رافع ، عن عبد الرزاق نحوه.

                                                [ ص: 232 ] الثالث: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي ، عن سريج - بضم السين المهملة وفي آخره جيم - ابن النعمان بن مروان الجوهري اللؤلؤي شيخ البخاري ، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة - واسمه عمرو بن المغيرة - بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي المخزومي المدني .

                                                عن محمد بن مسلم الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ... إلى آخره.

                                                وكل هؤلاء ثقات، غير أن عبد الرحمن بن أبي الزناد فيه مقال.

                                                وأبو الزناد اسمه عبد الله بن ذكوان .

                                                وأخرجه عبد الله بن أحمد في "مسنده": حدثني داود بن عمرو الضبي، ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن عبد الرحمن بن الحارث، [عن الزهري]، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس، أن: "الصعب بن جثامة قال: يا رسول الله الدار من دور المشركين نصيبها بالغارة فنصيب الولدان تحت بطون الخيل ولا نشعر، فقال: إنهم منهم".

                                                وأخرجه الطبراني: عن عبد الله بن أحمد نحوه.

                                                قوله: "عن أهل الديار" الديار جمع دار، وأراد بها ها هنا: القبائل، وكل قبيلة اجتمعت في محلة سميت تلك المحلة دارا.

                                                قوله: "يبيتون" أي: يصابون ليلا، يقال: بيت العدو إذا قصدته في الليل بغتة، وهو البيات أيضا.

                                                وفي "شرح البخاري": البيات: أن يغار عليهم بالليل بحيث لا يعرف رجل من امرأة.

                                                [ ص: 233 ] قوله: "وذراريهم" بتشديد الياء وهو الفصيح، وقد تخفف وهو جمع ذرية.

                                                قوله: "هم منهم" أي: أحكام النساء والولدان من أحكام رجالهم وآبائهم؛ لأن أحكامهم جارية عليهم في أحوالهم.

                                                وقال الخطابي: "هم منهم" يريد في حكم الدين، فإن ولد الكافر محكوم له بالكفر، ولم يرد بهذا القول إباحة دمائهم تعمدا لها وقصدا إليها، وإنما هو إذا لم يمكن الوصول إلى الآباء إلا بهم فإذا أصيبوا لاختلاطهم بالآباء؛ لم يكن عليهم في قتلهم شيء، وقد نهى النبي -عليه السلام- عن قتل النساء والصبيان، فكان ذلك على القصد لا قتال منهن، فإذا قاتلن فقد ارتفع الحظر، وأحل دماء الكفار إلا بشرائط الحقن.

                                                قلت: هذا الذي ذكره الخطابي خلاصة ما ذكره الطحاوي، وقد أخذه من كلامه.

                                                وقال الحازمي: رأى بعضهم حديث الصعب منسوخا - منهم: ابن عيينة والزهري - بحديث الأسود بن سريع: "ألا لا تقتلن ذرية"، وبحديث كعب بن مالك: "نهى عن قتل النساء والولدان إذ بعث إلى ابن أبي الحقيق" .

                                                قال الشافعي: وحديث الصعب كان في عمرة النبي -عليه السلام- فإن كان في الأولى فقتل ابن أبي الحقيق قبلها أو في سنتها، وإن كان في عمرته الآخرة فهو بعد ابن أبي الحقيق بلا شك.

                                                قال: ولم نعلمه رخص في قتل النساء والصبيان ثم نهى عنه.

                                                قلت: حديث الصعب كان في عمرة القضية؛ جاء ذلك في غير ما حديث صحيح، والوجه في أحاديث هذا الباب ما ذكره الطحاوي الذي قد قررناه عن قريب، والله أعلم.




                                                الخدمات العلمية