الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5206 5207 ص: وقد حدثنا محمد بن عبد الرحمن الهروي، قال: ثنا دحيم ، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: ثنا صفوان ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن أبيه ، عن عوف

                                                قال الوليد: وحدثني ثور ، عن خالد بن معدان ، عن جبير ، عن عوف - وهو ابن مالك -: أن مدديا وافقهم في غزوة مؤتة، وأن روميا كان يشد على المسلمين

                                                [ ص: 276 ] ويفري بهم، فتلطف له ذلك المددي فقعد له تحت صخرة، فلما مر به عرقب فرسه وخر الرومي لقفاه فعلاه بالسيف فقتله، فأقبل بفرسه بسرجه ولجامه وسيفه ومنطقته، وسلاحه مذهب بالذهب والجوهر إلى خالد بن الوليد ، -رضي الله عنه-، فأخذ منه خالد طائفة ونفله بقيته، فقلت: يا خالد، ما هذا؟ أما تعلم أن رسول الله -عليه السلام- نفل القاتل السلب كله؟ قال بلى، ولكني استكثرته، فقلت: أيم الله لأعرفنكها عند رسول الله -عليه السلام-، قال عوف: فلما قدمنا على رسول الله -عليه السلام- أخبرته خبره، فدعاه وأمره أن يدفع إلى المددي بقية سلبه، فولى خالد -رضي الله عنه- ليفعل، فقلت: كيف رأيت يا خالد، ؟ أو لم أف لك بما وعدتك؟ فغضب رسول الله -عليه السلام- وقال: يا خالد، لا تعطه، وأقبل علي فقال: هل أنتم تاركو أمرائي؟ لكم صفوة أمرهم وعليهم كدره".

                                                أفلا ترى أن رسول الله -عليه السلام- قد كان أمر خالدا بدفع بقية السلب عليه إلى المددي فلما تكلم عوف بما تكلم به أمر رسول الله -عليه السلام- خالدا أن لا يدفعه إليه؟ فدل ذلك أن السلب لم يكن واجبا للمددي بقتله الذي كان ذلك السلب عليه؛ لأنه لو كان واجبا له بذلك إذا لما منعه رسول الله -عليه السلام- منه لكلام كان من غيره، ولكن رسول -عليه السلام- أمر خالدا بدفعه إليه، وله دفعه إليه وأمره بعد ذلك بمنعه منه، وله منعه منه كقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لأبي طلحة في حديث البراء: قد بلغ مالا عظيما ولا أرانا إلا خامسيه. قال: فخمسه" فأخبر عمر -رضي الله عنه- أنهم كانوا لا يخمسون الأسلاب ولهم أن يخمسوها، وأن تركهم خمسها إنما كان بتركهم ذلك لا لأن الأسلاب قد وجبت للقاتلين كما تجب لهم سهمانهم من الغنيمة، فكذلك ما فعله رسول الله -عليه السلام- في حديث عوف بن مالك ، من أمره خالدا بما أمره به، ومن نهيه إياه بعد ذلك عما نهاه عنه إنما أمره بما له أن يأمر به، ثم نهاه عما له أن ينهاه عنه.

                                                وفيما ذكرنا دليل صحيح أن السلب لا يجب للقاتل من هذه الجهة.

                                                التالي السابق


                                                ش: ذكر هذا أيضا شاهدا لصحة ما قاله أهل المقالة الثانية من أن السلب لا يجب للقاتل بقتله، ولا يجب إلا بقول الإمام: "من قتل قتيلا فله سلبه"، وهو ظاهر من حديث عوف بن مالك -رضي الله عنه-.

                                                [ ص: 277 ] أخرجه بإسناد صحيح عن محمد بن عبد الرحيم الهروي - قال ابن أبي حاتم: هو صدوق.

                                                عن دحيم: وهو عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي شيخ البخاري وأبي داود والنسائي وابن ماجه .

                                                عن الوليد بن مسلم الدمشقي روى له الجماعة.

                                                عن صفوان بن عمرو السكسكي أبي عمرو الحمصي روى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح".

                                                عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي الحمصي، روى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح".

                                                عن أبيه جبير بن نفير بن مالك الحضرمي الشامي الحمصي، روى له الجماعة؛ البخاري في "الأدب".

                                                عن عوف بن مالك الأشجعي الصحابي .

                                                وأخرجه أبو داود: عن أحمد بن حنبل، نا الوليد بن مسلم، قال: حدثني صفوان بن عمرو ... إلى آخره.

                                                قد ذكرنا تمامه في أوائل الباب؛ لأن الطحاوي أخرج هناك طرفا من هذا الحديث عن ربيع المؤذن ، عن أسد ، عن الوليد بن مسلم ، عن صفوان بن عمرو ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن أبيه، عن عوف بن مالك.

                                                وأخرجه مسلم أيضا: عن زهير بن حرب ، عن الوليد بن مسلم .

                                                وقد ذكرناه هناك.

                                                قوله: "إن مدديا وافقهم" أي: إن رجلا مدديا، وهو نسبة إلى المدد، و: "مؤتة" بضم الميم: موضع بالشام ، وقد ذكرناها عن قريب.

                                                [ ص: 278 ] قوله: "ويفري بهم" أي: بالمسلمين، ومعناه يبالغ في النكاية والقتل، ومادته: فاء وراء.

                                                وقال الخطابي في "شرح سنن أبي داود": معناه شدة النكاية فيهم، يقال: فلان يفري الفري إذا كان يبالغ في الأمر، وأصل الفري: القطع.

                                                قوله: "فتلطف له" أي: ترفق له.

                                                قوله: "عرقب فرسه" أي قطع عرقوبه، وهو العصب الغليظ الموتر فوق عقب الإنسان، وعرقوب الدابة في رجلها بمنزلة الركبة في يدها.

                                                قوله: "طائفة" أي: شيئا منه، والطائفة من الشيء: قطعة منه، وذكره الجوهري في باب الطوف ليعلم أنه أجوف واوي.

                                                قوله: "لأعرفنكها عند رسول الله -عليه السلام-" يريد: لأجازينك بها حتى تعرف صنيعك، قال الفراء: تقول العرب للرجل إذا أفاء إليه رجل: لأعرفن لك، أي: لأجازينك عليه، يقول هذا لمن يتوعده: قد علمت ما علمت وعرفت ما صنعت، ومعناه: لأجازينك عليه لا أنك تقصد إلى أن تعرفه أنك قد علمت فقط، ومنه قوله تعالى: عرف بعضه وأعرض عن بعض قرأ الكسائي بالتخفيف، وعاصم في إحدى الروايتين، ومعنى عرف: جازى، ومنه قوله تعالى: وما تفعلوا من خير يعلمه الله فيجازي عليه.

                                                قوله: "لكم صفوة أمره" صفو الشيء خالصه - بفتح الصاد لا غير - فإذا ألحقوه الهاء قالوا: صفوة وصفوة - بالفتح والكسر - يريد أن مقاساة جمع المال وحفظ البلاد ومداراة الناس على الأمراء، وللناس أعطياتهم صافية، ثم ما كان من خطأ في ذلك أو غفلة أو عيب أو سوء فعلى الأمراء، والناس منه أبرياء.

                                                [ ص: 279 ] ويستفاد منه أحكام:

                                                الأول: أن ما ذكره الطحاوي وهو أنه يدل على أن السلب لم يكن واجبا للقاتل بقتله؛ إذ لو كان واجبا به لما منعه رسول الله -عليه السلام- عن ذلك المددي.

                                                الثاني: فيه أن نسخ الشيء قبل الفعل جائز؛ ألا ترى أنه -عليه السلام- أمر برد السلب ثم أمر بإمساكه قبل أن يرده؟ فصار في ذلك نسخ لحكمه الأول.

                                                الثالث: فيه دليل أن الفرس من السلب، وأن السلب لا يخمس، ألا ترى أنه أمر خالدا برده إليه مع استكثاره إياه! قال الخطابي: وإنما كان رده إلى خالد بعد الأمر الأول بإعطائه القاتل؛ نوعا من النكير على عوف، وردها له لئلا يتجرأ الناس على الأئمة ولا يسرعون إلى الوقيعة فيهم، وكان خالد -رضي الله عنه- مجتهدا في صنعه ذلك؛ إذ كان قد استكثر السلب، فأمضى رسول الله -عليه السلام- اجتهاده لما رأى في ذلك من المصلحة العامة بعد أن كان خطأه في رأيه الأول، والأمر الخاص بالعام واليسير من الضرر يحتمل الكثير من النفع والصلاح، فيشبه أن يكون النبي -عليه السلام- قد عوض المددي من الخمس الذي هو له، وترضى خالدا بالرضح منه وتسليم الحكم له في السلب.




                                                الخدمات العلمية