الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5216 ص: وأما قولهم: "ثم أفضى الأمر إلى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فلم يغير من ذلك شيئا عما كان وضعه عليه أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما-، قالوا: فذلك دليل على أنه رأى في ذلك أيضا مثل الذي رأيا" فليس ذلك كما ذكروا؛ لأنه لم يكن بقي في يد علي -رضي الله عنه- ما كان وقع في يد أبي بكر وعمر من ذلك؛ لأنهما لما وقع في أيديهما أنفذاه في وجوهه التي رأياها في ذلك الذي كان عليهما، ثم أفضى الأمر إلى علي -رضي الله عنه-، فلم نعلم أنه سبى أحدا، ولا ظهر على أحد من العدو، ولا غنم غنيمة يجب فيها خمس لله - عز وجل -؛ لأنه إنما كان شغله في خلافته كلها بقتال من خالفه ممن لا يسبى ولا يغنم، وإنما يحتج بقول علي -رضي الله عنه- في ذلك لو سبى وغنم ففعل في خمس ذلك مثل ما كان أبو بكر وعمر فعلا في الأخماس، فأما إذا لم يكن سبى ولا غنم؛ فلا حجة لأحد في تركه تغيير ما كان فعل قبله من ذلك، ولو كان بقي في يده من ذلك شيء مما كان غنمه من كان قبله فحرمه ذوي قرابة رسول الله -عليه السلام- لما كان في ذلك أيضا حجة تدل على مذهبه في ذلك كيف كان؟ لأن ذلك إنما صار إليه بعد ما نفذ فيه الحكم من الإمام الذي كان قبله، فلم يكن له إبطال ذلك الحكم وإن كان يرى هو خلافه؛ لأن ذلك الحكم مما يختلف فيه العلماء، ولو كان علي -رضي الله عنه- رأى في ذلك ما كان أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- رأياه؛ لكان في قرابة رسول الله -عليه السلام- من قد خالفه، لقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كنا نرى أنا نحن هم، فأبى ذلك علينا قومنا".

                                                وهذه جوابات الحجج التي احتج بها الذين نفوا سهم ذوي القرابة أن يكون واجبا لهم بعد رسول الله -عليه السلام- ولا في حياته، وأنهم كانوا في ذلك كسائر الفقراء،

                                                [ ص: 308 ] فبطل هذا المذهب وثبت أحد المذاهب الأخر.

                                                التالي السابق


                                                ش: هذا أيضا جواب عما احتج به أهل المقالة الأولى لما ذهبوا إليه بحجج متعددة، منها كان قولهم: "ثم هذا علي -رضي الله عنه- لما صار الأمر إليه حمل الناس على ذلك أيضا..." إلى آخره، فأجاب عن هذا بقوله: "وأما قولهم" أي: قول أهل المقالة الأولى.

                                                بيان وجه احتجاجهم بذلك: أن عليا -رضي الله عنه- لما أفضى إليه الأمر - يعني لما انتهت إليه الخلافة من بعد عثمان -رضي الله عنه- - لم يغير ما كان فعله أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- من قسمته جميع الخمس وعدم إعطائه لقرابة رسول الله -عليه السلام- من ذلك شيئا، وهذا دليل على أن عليا -رضي الله عنه- رأى في ذلك مثل ما رأى أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما-.

                                                وأجاب عن ذلك بقوله: "فليس ذلك كما ذكروا..." إلى آخره. وتقريره من وجهين:

                                                أحدهما: بطريق المنع؛ وهو أن يقال: لا نسلم أن يكون الأمر كما ذكرتم؛ لأن عليا -رضي الله عنه- لم يبق في يده مما كان وقع في يد أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-؛ لأنهما قد كانا أنفذا ذلك في وجوهه التي رأياها ولم يبق من ذلك شيء.

                                                ولا نعلم أيضا أن عليا -رضي الله عنه- سبى أحدا، ولا ظهر على أحد من العدو، ولا غنم غنيمة يجب فيها خمس لله - عز وجل -؛ لأن اشتغاله في خلافته كلها إنما كان بالمخالفين له من الشاميين وغيرهم، وإنما يتوجه احتجاجهم بذلك أن لو سبى علي أو غنم شيئا ثم فعل مثل ما فعل الشيخان.

                                                والآخر: بطريق التسليم، وهو أن يقال: سلمنا أنه قد بقي في يد علي -رضي الله عنه- من ذلك شيء، ومنع ذوي قرابة رسول الله -عليه السلام- وليس فيه حجة لهم أيضا؛ لأن ذلك إنما كان بعدما نفذ فيه الحكم من الإمامين اللذين قبله، فإذا نفذ إمام أمرا ووقع الحكم به فليس للإمام الذي يأتي بعده أن يبطله، وإن كان ذاك خلاف ما يراه في

                                                [ ص: 309 ] اجتهاده؛ لأنا قلنا: إن باب الاجتهاد واسع واختلاف العلماء فيه واقع.

                                                قوله: "فحرمه" من قولهم: حرمه الشيء يحرمه حرما - مثال سرقه يسرقه سرقا بكسر الراء - وحرمه وحريمه وحرمانا، وأحرمه أيضا إذا منعه إياه.




                                                الخدمات العلمية