الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5662 5663 ص: وقد خولفوا في ذلك، فقيل: الشرطان في البيع هو أن يقع البيع على ألف درهم حال أو مائة دينار إلى سنة، فيقع البيع على أن يعطيه المشتري أيهما شاء، فالبيع فاسد؛ لأنه وقع بثمن مجهول، وكان من الحجة لهم في ذلك ما قد روي عن أصحاب رسول الله -عليه السلام-: أن مبشر بن الحسن حدثنا، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا شعبة ، عن خالد بن سلمة، قال: سمعت محمد بن عمرو بن الحارث يحدث، عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود -رضي الله عنهما-: "أنها باعت عبد الله جارية واشترطت خدمتها، فذكرت ذلك لعمر -رضي الله عنه- فقال: لا يقربها ولأحد فيها مشوبة".

                                                حدثنا فهد ، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زهير ، عن عبيد الله بن عمر، قال: حدثني نافع ، عن ابن عمر، قال: لا يحل فرج إلا فرج إن شاء صاحبه باعه وإن شاء وهبه وإن شاء أمسكه؛ لا شرط فيه".

                                                حدثنا محمد بن النعمان ، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا يونس بن عبيد ، عن نافع ، عن ابن عمر: أنه كان يكره أن يشتري الرجل الأمة على أن لا يبيع ولا يهب". .

                                                [ ص: 42 ] فقد أبطل عمر -رضي الله عنه- بيع عبد الله، ، وتابعه عبد الله على ذلك، ولم يخالفه فيه، وقد كان له خلافه أن لو كان يرى خلاف ذلك؛ لأن ما كان من عمر ، -رضي الله عنه- لم يكن على جهة الحكم، وإنما كان على جهة الفتيا، وتابعتهما زينب امرأة عبد الله على ذلك، ولها من رسول الله -عليه السلام- صحبة، وتابعهم على ذلك عبد الله بن عمر وقد علم من رسول الله -عليه السلام- ما كان من قوله لعائشة -رضي الله عنها- في أمر بريرة، ، على ما قد رويناه عنه في هذا الباب.

                                                فدل ذلك أن معناه كان عنده على خلاف ما حمله عليه الذين احتجوا بحديثه، ولم نعلم أحدا من أصحاب النبي -عليه السلام- غير من ذكرنا ذهب إلى غير ما ذهب إليه عمر ، ومن تابعه على ذلك ممن ذكر في هذه الآثار؛ فكان ينبغي أن يجعل هذا أصلا وإجماعا من أصحاب النبي -عليه السلام- ولا يخالف ذلك.

                                                فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي وقد خولف القوم الذين أفسدوا البيع بذلك على الشرط، والمخالفون هم بعض الحنابلة، فإنهم قالوا: المراد من الشرطين من نهيه -عليه السلام- عن شرطين في بيعة: هو أن يقع البيع على ألف درهم حال أو مائة دينار... إلى آخره، فهذه الصورة عند هؤلاء يكون فيها ثلاث شروط؛ لأن البيع نفسه شرط، وشرطان آخران: أحدهما: قوله: على ألف درهم حالة، والآخر: قوله: أو مائة دينار إلى سنة.

                                                وقال الخطابي: معنى قوله: "ولا شرطان في بيع" هو أن يقول: بعت هذا الثوب نقدا بدينار، ونسيئة بدينارين، فهذا بيع واحد يضمن شرطين يختلف المقصود منه باختلافهما وهو الثمن، ويدخله الغرر والجهالة، ولا فرق في مثل هذا بين شرط واحد وبين شرطين اثنين.

                                                قوله: "وكان من الحجة لهم في ذلك..." إلى آخره، جواب عما قاله هؤلاء المخالفون، بيانه: أن عمر -رضي الله عنه- أبطل بيع عبد الله بن مسعود ، وعبد الله تابع عمر على ذلك ولم يخالفه فيه، ولو كان عنده خلافه لخالفه في ذلك، ولكن كان عنده مثل

                                                [ ص: 43 ] ما أفتى به عمر -رضي الله عنه- ولا سيما تابعته أيضا على ذلك زينب امرأة عبد الله وهي أيضا صحابية، وتابعهم على ذلك أيضا عبد الله بن عمر فيما روى نافع عنه، والحال أنه قد علم من رسول الله -عليه السلام- ما كان من قوله لعائشة في أمر بريرة على ما مرت روايته فيما مضى، فدل ذلك على شيئين:

                                                الأول: أن معنى حديث بريرة كان عند عبد الله بن عمر على خلاف ما حمله عليه أهل المقالة الأولى.

                                                والثاني: أن هذا الحكم، أعني فساد البيع بفساد الشرط صار كالمجمع عليه؛ لأنا لا نعلم أحدا من الصحابة -رضي الله عنهم- ذهب في ذلك إلى خلاف ما ذهب إليه عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وعبد الله بن مسعود وامرأته زينب -رضي الله عنهم-.

                                                فإن قيل: الأظهر من أمر عمر -رضي الله عنه-: "لا يقربها" أنه أمضى شراءه لها ونهاه عن وطئها، فلا يدل ذلك على فساد البيع بالشرط.

                                                قلت: لا نسلم ذلك، ولكن معنى كلامه: تنح عنها وافسخ البيع فهو فاسد، وهكذا فسر كلامه في بعض شروح "الموطأ"، ثم قال: وروي عنه نحو هذا الخبر، وأن عمر -رضي الله عنه- قال له: "ليس من مالك ما فيه مشوبة لغيرك".

                                                وقال أبو مصعب: قال مالك: قول عمر -رضي الله عنه-: "لا تقربها وفيها شرط لأحد" يريد: لا تشترها، ليس: لا تطأها.

                                                وقال محمد بن معاوية الحضرمي: سمعت مالكا يقول في قول عمر -رضي الله عنه-: "لا تقربها وفيها شرط لأحد" يقول: لا تطأها، وهذا خلاف مذهب مالك عند أصحابه، والصحيح عندهم ما ذكره أبو مصعب عنه. قاله ابن زرقون في "شرح الموطأ".

                                                وقال أبو عمر: ظاهر قوله: "اشترطت خدمتها" أن ذلك كان في نفس العقد لا تطوعا بعد كماله، وهذا يسمى بيع الثنيا، وهو بيع فاسد مع النقد، وإذا كانت الثنيا غير مؤقتة مثل أن يقول: متى جئت بالثمن رددت عليك المبيع، أو: متى أردت بيعه رددته عليك بالثمن الذي أعطى بها أو بالثمن الذي اشتريتها به، فهذا كله غير جائز؛ لنهي رسول الله -عليه السلام- عن الثنيا.

                                                [ ص: 44 ] ثم إسناد أثر زينب امرأة عبد الله صحيح، ورجاله ثقات.

                                                فأبو عامر العقدي اسمه عبد الملك بن عمرو، روى له الجماعة.

                                                وأخرجه مالك في "موطئه": عن ابن شهاب، أن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أخبره: "أن عبد الله بن مسعود ابتاع جارية من زينب الثقفية واشترطت عليه إن بعتها فهي بالثمن الذي تبيعها به، فسأل عبد الله بن مسعود عن ذلك عمر بن الخطاب، فقال عمر بن الخطاب: لا تقربها وفيها شرط لأحد".

                                                وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه": ثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، قال: "ابتعت جارية وشرط علي أهلها أن لا أبيع ولا أهب ولا أمهر فإذا مت فهي حرة، فسألت الحكم بن عتيبة فقال: لا بأس به. وسألت مكحولا فقال: لا بأس به. قلت: يخاف علي منه؟ قال: بل أرجو لك فيه أجرين، وسألت عطاء أو سئل فكرهه.

                                                قال الأوزاعي: فحدثني يحيى بن أبي كثير ، عن الحسن قال: "البيع جائز والشرط باطل. وسألت عبدة بن أبي لبابة فقال: هذا فرج سوء. وسألت الزهري فأخبرني أن ابن مسعود كتب إلى عمر بن الخطاب يسأله عن جارية ابتاعها من امرأته على أنه إن باعها فهي أحق بها بالثمن، فقال عمر -رضي الله عنه-: لا تطأ فرجا فيه شيء لغيرك".

                                                حدثنا وكيع وابن أبي زائدة ، عن مسعر ، عن القاسم، قال: قال عمر -رضي الله عنه-: "ليس من مالك ما كان فيه شوبة لغيرك".

                                                حدثنا وكيع، قال: ثنا جعفر بن برقان ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: "أن ابن مسعود اشترى من امرأته زينب جارية واشترطت عليه إن باعها فهي أحق بها بالثمن، فسأل ابن مسعود عمر -رضي الله عنهما- فكره أن يطأها".

                                                [ ص: 45 ] حدثنا وكيع ، عن مسعر ، عن عمران بن عمير، أن عمر -رضي الله عنه- قال لعبد الله: "لا تقربها".

                                                ثم إنه أخرج أثر ابن عمر -رضي الله عنه- من طريقين صحيحين:

                                                الأول: عن فهد بن سليمان ، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري ، عن زهير بن معاوية الكوفي أحد الأئمة الحنفية، روى له الجماعة، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، روى له الجماعة، عن نافع ... إلى آخره.

                                                وأخرجه البيهقي في "سننه": من حديث عبيد الله ، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يقول: "لا يحل للرجل أن يطأ فرجا إلا فرجا إن شاء وهبه وإن شاء باعه وإن شاء عتقه، ليس فيه شرط".

                                                الثاني: عن محمد بن النعمان السقطي ، عن سعيد بن منصور ، عن هشيم بن بشير ... إلى آخره.

                                                وأخرج مالك في "موطئه": عن نافع، أن عبد الله بن عمر كان يقول: "لا يطأ الرجل وليدة إلا وليدة إن شاء باعها وإن شاء وهبها وإن شاء أمسكها وإن شاء صنع بها ما شاء".

                                                قوله: "لا يحل فرج" أي وطء فرج إلا وطء فرج خالص له؛ إن شاء باعه وإن شاء وهبه وإن شاء أمسكه، والحال أنه لا شرط فيه ولا نزاع فيه لأحد.




                                                الخدمات العلمية