الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5123 5124 5125 5126 5127 ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لا حجة لكم في هذا الحديث؛ لأن رسول الله -عليه السلام- إنما كان يقاتل قوما لا يوحدون الله - عز وجل -، فكان أحدهم إذا وحد الله - عز وجل - علم بذلك تركه لما قوتل عليه وخروجه منه، ولم يعلم بذلك دخولهم في الإسلام أو بعض الملل التي توحد الله وتكفر به بجحدها رسله، وغير ذلك من الوجوه التي يكفر بها أهلها مع توحيدهم لله - عز وجل -، فكان حكم هؤلاء أن لا يقاتلوا إذا وقعت هذه الشبهة حتى تقوم الحجة على من يقاتلهم بوجوب قتالهم؛ فلهذا كف رسول الله -عليه السلام- عن قتال من كان يقاتل بقولهم لا إله إلا الله، فأما من سواهم من اليهود فإنا قد رأيناهم يشهدون أن لا إله إلا الله ويجحدون النبي -عليه السلام-، فليسوا بإقرارهم بتوحيد الله - عز وجل - مسلمين؛ إذ كانوا جاحدين برسول الله -عليه السلام-، فإذا أقروا برسول الله -عليه السلام- علم بذلك خروجهم من اليهودية ولم يعلم به دخولهم في الإسلام؛ لأنه قد يجوز أن يكونوا قد انتحلوا قول من يقول: إن محمدا رسول الله إلى العرب خاصة، وقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين بعث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- إلى خيبر وأهلها

                                                [ ص: 183 ] يهود؛ بما حدثنا يونس ، ثنا ابن وهب ، قال: أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، -رضي الله عنه-، عن رسول الله -عليه السلام-: "لما دفع الراية إلى علي -رضي الله عنه- حين وجهه إلى خيبر قال: امض ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك، فسار علي -رضي الله عنه- شيئا ثم وقف فصرخ فقال: يا رسول الله على ماذا أقاتل؟ قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله". .

                                                ففي هذا الحديث أن رسول الله -عليه السلام- قد كان أباح له قتالهم وإن شهدوا أن لا إله إلا الله حتى يشهدوا مع ذلك أن محمدا رسول الله؛ لأنهم قد كانوا يوحدون الله - عز وجل - ولا يقرون برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليا -رضي الله عنه- بقتالهم حتى يعلم خروجهم مما أمر بقتالهم عليه من اليهودية، كما أمر بقتال عبدة الأوثان حتى يعلم خروجهم مما قوتلوا عليه، وليس في إقرار اليهود أيضا بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ما يجب أن يكونوا مسلمين، ولكن النبي -عليه السلام- أمر بترك قتالهم إذا قالوا ذلك؛ لأنه قد يجوز أن يكونوا أرادوا به الإسلام أو غير الإسلام، فأمر بالكف عن قتالهم حتى يعلم ما أرادوا بذلك، كما ذكرنا فيما تقدم من مشركي العرب، وقد أتى اليهود إلى رسول الله -عليه السلام- فأقروا بنبوته ولم يدخلوا في الإسلام، فلم يقاتلهم على إبائهم الدخول في الإسلام إذ لم يكونوا عنده بذلك الإقرار مسلمين.

                                                حدثنا إبراهيم بن مرزوق وإبراهيم بن أبي داود وأبو أمية ، وأحمد بن داود ، وعبد العزيز بن معاوية، قالوا: ثنا أبو الوليد (ح).

                                                وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود (ح).

                                                وحدثنا أبو بشر الرقي ، ثنا حجاج بن محمد (ح).

                                                وحدثنا ابن أبي داود، ثنا عمرو بن مرزوق؛ قالوا: ثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة ، عن صفوان بن عسال: " ، أن يهوديا قال لصاحبه:

                                                [ ص: 184 ] تعال حتى نسأل هذا النبي، فقال له الآخر: لا تقل له: نبي فإنه إن سمعها صارت له أربعة عين، فأتاه فسأله عن هذه الآية: ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فقال: لا تشركوا بالله شيئا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ليقتله، ولا تقذفوا المحصنة، ولا تفروا من الزحف، وعليكم خاصة اليهود أن لا تعتدوا في السبت. قال: فقبلوا يده وقالوا: نشهد إنك نبي، قال: فما يمنعكم أن تتبعوني، قالوا: إن داود دعا أن لا يزال في ذريته نبي، وإنا نخشى إن اتبعناك أن تقتلنا اليهود".


                                                ففي هذا الحديث أن اليهود كانوا أقروا بنبوة رسول الله -عليه السلام- مع توحيدهم لله تعالى فلم يأمر بترك قتالهم رسول الله -عليه السلام- حتى يقروا بجميع ما يقر به المسلمون، فدل ذلك أنهم لم يكونوا بذلك القول مسلمين، وثبت أن الإسلام لا يكون إلا بالمعاني التي يدل على الدخول في الإسلام، وترك سائر الملل.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم جماهير العلماء من الفقهاء والمحدثين، منهم: أبو حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي وأحمد في رواية صحيحة.

                                                قوله: "وقالوا: لا حجة لكم" أي: قال هؤلاء الآخرون، وهذه إشارة إلى الجواب عما احتجت به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه من الأحاديث المذكورة.

                                                وملخصه: أن المشرك وعابد الوثن أو النار أو نحوهما إذا قال: لا إله إلا الله؛ يحكم بإسلامه. والكافر الذي يوحد الله وينكر نبوة محمد -عليه السلام-، أو يعترف بنبوته ولكن يدعي أنها مخصوصة بالعرب إذا قال: لا إله إلا الله؛ لا يحكم بإسلامه حتى يقول: محمد رسول الله، ويتبرأ عن كل دين سوى دين الإسلام.

                                                [ ص: 185 ] وقال صاحب "البدائع": الطرق التي يحكم بها كون الشخص مؤمنا ثلاثة: نص ودلالة وتبعية:

                                                أما النص: فهو أن يأتي بالشهادة أو بالشهادتين أو يأتي بهما مع التبرؤ مما هو عليه صريحا، وبيان هذه الجملة أن الكفرة أصناف أربعة: صنف منهم ينكرون الصانع أصلا وهم الدهرية المعطلة، وصنف منهم يقرون بالصانع وينكرون توحيده وهم الوثنية والمجوس، وصنف منهم يقرون بالصانع وتوحيده وينكرون الرسالة رأسا؛ وهم قوم من الفلاسفة، وصنف منهم يقرون بالصانع وتوحيده والرسالة في الجملة لكنهم ينكرون رسالة رسولنا محمد -عليه السلام- وهم اليهود والنصارى.

                                                فإن كان من الصنف الأول أو الثاني فقال: لا إله إلا الله يحكم بإسلامه؛ لأن هؤلاء يمتنعون عن الشهادتين أصلا، فإذا أقروا بها كان ذلك دليل إيمانهم، وكذلك إذا قال: أشهد أن محمدا رسول الله؛ لأنهم يمتنعون عن كل واحد من كلمتي الشهادتين، فكان الإتيان بواحدة منهما أيتهما؛ كانت دلالة الإيمان.

                                                وإن كان من الصنف الثالث فقال: لا إله إلا الله؛ لا يحكم بإسلامه؛ لأن منكر الرسالة لا يمتنع عن هذه المقالة، ولو قال: أشهد أن محمدا رسول الله يحكم بإسلامه؛ لأنه يمتنع عن هذه الشهادة، فكان الإقرار بها دليل الإيمان.

                                                وإن كان من الصنف الرابع فأتى بالشهادتين فقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ لا يحكم بإسلامه حتى يتبرأ من الدين الذي هو عليه من اليهودية أو النصرانية؛ لأن من هؤلاء من يقر برسالة محمد -عليه السلام- لكنه يقول: إنه بعث إلى العرب دون غيرهم؛ فلا يكون آتيا بالشهادتين بدون التبرؤ دليلا على إتيانه، وكذا لو قال يهودي أو نصراني: أنا مؤمن، أو مسلم، أو قال: آمنت أو أسلمت، لا يحكم بإسلامه؛ لأنهم يدعون أنهم مؤمنون وأن الإيمان والإسلام هو الذي هم عليه.

                                                وروى الحسن ، عن أبي حنيفة: أنه إذا قال اليهودي أو النصراني: أنا مسلم أو قال: أسلمت، يسأل عن ذلك: أي شيء أردت به؟ إن قال: أردت به ترك اليهودية أو النصرانية والدخول في دين الإسلام يحكم بإسلامه حتى لو رجع عن

                                                [ ص: 186 ] ذلك كان مرتدا، وإن قال: أردت بقولي أسلمت أني على الحق ولم أرد بذلك الرجوع عن ديني، لم يحكم بإسلامه.

                                                ولو قال يهودي أو نصراني: أشهد أن لا إله إلا الله وأتبرأ عن اليهودية أو النصرانية، لا يحكم بإسلامه؛ لأنهم لا يمتنعون عن التوحيد، والتبرؤ عن اليهودية أو النصرانية لا يكون دليل الدخول في دين الإسلام لاحتمال أنه تبرأ عن ذلك ودخل في دين آخر سوى الإسلام فلا يصلح التبرؤ دليل الإيمان مع الاحتمال، ولو أقر مع ذلك فقال: دخلت في دين الإسلام أو في دين محمد -عليه السلام- حكم بإسلامه لزوال الاحتمال بهذه القرينة.

                                                وأما الدلالة: فنحو أن يصلي كتابي أو واحد من أهل الشرك في جماعة فيحكم بإسلامه عندنا خلافا للشافعي، ولو صلى وحده لا يحكم بإسلامه، وكذا إذا أذن في مسجد جماعة يحكم بإسلامه، ولو قرأ القرآن لا يحكم بإسلامه، ولو حج فلو تهيأ للإحرام ولبى وشهد المناسك مع المسلمين يحكم بإسلامه، وإن لبى ولم يشهد المناسك أو شهد المناسك ولم يلب؛ لا يحكم بإسلامه.

                                                وأما التبعية: فإن الصبي يحكم بإسلامه تبعا لأبويه عقل أو لم يعقل، ويحكم بإسلامه تبعا للدار أيضا، ولو كان أحدهما كتابيا والآخر مجوسيا فالولد كتابي؛ لأن المجوسي شر من الكتابي، انتهى.

                                                ثم الكلام في أحاديث الباب:

                                                أما في حديث أبي هريرة فأخرجه بإسناد صحيح: عن يونس بن عبد الأعلى ، عن عبد الله بن وهب ، عن يعقوب بن عبد الرحمن ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه أبي صالح ذكوان الزيات ، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

                                                وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا إسحاق بن شاهين، نا خالد ، عن سهيل ، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه، قال عمر -رضي الله عنه-: فما أحببت الإمارة إلا يومئذ، فدعا

                                                [ ص: 187 ] عليا -رضي الله عنه- فبعثه فقال: اذهب فقاتل حتى يفتح الله على يديك ولا تلتفت، فمشى ساعة ثم وقف فلم يلتفت، فقال: يا رسول الله علام أقاتل؟ قال: قاتلهم حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله".
                                                انتهى.

                                                فهذا يدل على أن الكافر الذي يوحد الله تعالى إذا قال: لا إله إلا الله؛ لا يحكم بإسلامه حتى يقول مع ذلك: وأشهد أن محمدا رسول الله.

                                                وقال البغوي: إن كان الكافر وثنيا أو ثنويا لا يقر بالوحدانية فإذا قال: لا إله إلا الله حكم بإسلامه، ثم يجبر على قبول جميع الأحكام، وإن كان مقرا بالوحدانية منكرا لنبوة نبينا -صلى الله عليه وسلم- لم يحكم بإسلامه حتى يقول مع ذلك: محمد رسول الله، وإن كان يقر بالرسالة إلى العرب خاصة لم يحكم بإسلامه حتى يقول: محمد رسول الله إلى جميع الخلق، أو يتبرأ من كل دين خالف الإسلام، وإن كان كفره بجحود فرض أو استباحة محرم لم يصح إسلامه حتى يأتي بالشهادتين ويرجع عما اعتقده.

                                                وأما حديث صفوان بن عسال -رضي الله عنه- فأخرجه من أربع طرق صحاح:

                                                الأول: عن إبراهيم بن مرزوق وإبراهيم بن أبي داود البرلسي وأبي أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي وأحمد بن داود المكي وعبد العزيز بن معاوية القرشي العتابي خمستهم جميعا، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري ، عن شعبة بن الحجاج ، عن عمرو بن مرة بن عبد الله الجملي الكوفي الأعمى ، عن عبد الله بن سلمة - بكسر اللام - المرادي الكوفي ، عن صفوان بن عسال المرادي الصحابي -رضي الله عنه-.

                                                وأخرجه الترمذي في "التفسير": ثنا محمود بن غيلان، قال: ثنا أبو داود ويزيد بن هارون وأبو الوليد - اللفظ لفظ يزيد، والمعنى واحد - عن شعبة،

                                                [ ص: 188 ] عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة ، عن صفوان بن عسال: "أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي نسأله، قال: لا تقل نبي؛ فإنه إن سمعها تقول: نبي كانت له أربعة أعين، فأتيا النبي -عليه السلام- فسألاه عن قول الله تبارك وتعالى: ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان فيقتله، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تفروا من الزحف - شك شعبة - وعليكم يا معشر اليهود خاصة أن لا تعتدوا في السبت. فقبلا يديه ورجليه وقالا: نشهد إنك نبي، قال: فما يمنعكما أن تسلما؟ قالا: إن داود -عليه السلام- دعا الله أن لا يزال في ذريته نبي وإنا نخاف إن أسلمنا أن يقتلنا اليهود".

                                                قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

                                                الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي ، عن شعبة ... إلى آخره.

                                                وأخرجه الطيالسي في "مسنده".

                                                الثالث: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي ، عن حجاج بن محمد المصيصي الأعور ، عن شعبة ... إلى آخره.

                                                وأخرجه النسائي في "المحاربة": عن أبي كريب ، عن ابن إدريس ، عن شعبة ... إلى آخره.

                                                وفي "السير": عن أبي كريب وأبي قدامة ، عن ابن إدريس بإسناده مثله.

                                                [ ص: 189 ] وأخرجه ابن ماجه في "الأدب": عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن ابن إدريس وغندر وأبي أسامة ، عن شعبة؛ ببعضه بقصة التقبيل.

                                                الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن عمرو بن مرزوق البصري شيخ البخاري في التعليق، وأبي داود ، عن شعبة ... إلى آخره.

                                                وأخرجه الترمذي في كتاب "الاستئذان": عن أبي كريب ، عن عبد الله بن إدريس وأبي أسامة ، عن شعبة ... إلى آخره نحوه.

                                                وقال: حديث حسن صحيح.

                                                قوله: "تعال" أمر من تعالى يتعالى.

                                                قوله: "فإنه إن سمعها"، أي: إن سمع هذه اللفظ وهي قوله: "نبي".

                                                قوله: "صارت له أربعة أعين" كناية عن فرحه ونشاطه إذا سمع هذه اللفظة وهي قوله: "نبي" ممن لا يؤمن به.

                                                قوله: "يبرئ" فقيل: من برئ براءة يقال: فلان برئ من هذا الأمر إذا كان خاليا عنه، ويجمع على برآء نحو فقيه وفقهاء، وبراء أيضا نحو كريم وكرام، وأبراء مثل شريف وأشراف، وأبرياء مثل نصيب وأنصباء، وبريئون.

                                                قوله: "ولا تقذفوا المحصنة" القذف ها هنا هو رمي المرأة بالزنا أو ما كان في معناه، وأصله الرمي، ثم استعمل في هذا المعنى حتى غلب عليه، يقال: قذف يقذف قذفا، فهو قاذف.

                                                قوله: "لا تفروا من الزحف" الزحف: الجيش يزحفون إلى العدو أي يمشون، يقال: زحف إليه زحفا: إذا مشى نحوه.

                                                قوله: "وعليكم خاصة اليهود أن لا تعتدوا في السبت" معناه الزموا عدم الاعتداء في السبت، والاعتداء: هو الخروج عن الوضع الشرعي والسنة المأثورة.

                                                [ ص: 190 ] وانتصاب "خاصة" على الحال، ومعناه: عليكم مختصين أيها اليهود أن لا تعتدوا في أمر السبت؛ لأن تعظيم السبت هو مخصوص باليهود.

                                                ويستفاد منه أحكام:

                                                الأول: أن الشرك هو أعظم هذه الذنوب التسعة، وهي الكبائر وأكبرها وأعظمها الشرك بالله تعالى، ثم إن الكبيرة والصغيرة أمران نسبيان، فكل ذنب بالنسبة إلى ما فوقه صغيرة وبالنسبة إلى ما تحته كبيرة، غير أن الشرك ليس فوقه ذنب أعظم منه، وما سواه كله بالنسبة إليه صغائر، فيكون الشرك أكبر الكبائر وأعظم الذنوب.

                                                الثاني: فيه النهي عن قتل النفس المحرمة: التي حرمها الله إلا بالحق وليس بعد الشرك ذنب أعظم عند الله من قتل النفس المحرمة.

                                                الثالث: فيه النهي عن السرقة، وقد قال -عليه السلام-: "لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن".

                                                الرابع: فيه النهي عن الزنا، قال الله تعالى: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا وقال -عليه السلام-: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن".

                                                الخامس: فيه النهي عن السحر، وقد روى عبد الرازق ، عن إبراهيم بن أبي يحيى ، عن صفوان بن سليم قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من تعلم شيئا من السحر - قليلا أو كثيرا - كان آخر عهده من الله".

                                                واختلف الناس في الساحر، فقالت طائفة: يقتل الساحر ولا يستتاب، والسحر كفر، وهو قول مالك .

                                                وقال أبو حنيفة: يقتل الساحر.

                                                [ ص: 191 ] وقال الشافعي: إن كان الكلام الذي سحر به كفرا فالساحر مرتد، وإن كان ليس بكفر فلا يقتل؛ لأنه ليس بكافر، وهو مذهب الظاهرية أيضا.

                                                السادس: فيه النهي عن أكل الربا، وروى ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -عليه السلام-: "أنه لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه".

                                                الحديث صحيح.

                                                السابع: فيه النهي عن النم على الغافل المتخلي عند الظلمة ليقتلوه أو يؤذوه أو يأخذوا ماله.

                                                الثامن: فيه النهي عن قذف المحصنات، وروى أبو هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: يا رسول الله، وما هي؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وقذف المؤمنات..." الحديث.

                                                التاسع: فيه النهي عن الفرار عن الزحف؛ فإنه أيضا من الكبائر.




                                                الخدمات العلمية