الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5744 ص: فقال أهل المقالة الأولى: هذا لا يلزمنا؛ لأنا قد رأينا الحنطة لا يباع بعضها ببعض نسيئة وقرضها جائز، فكذلك الحيوان لا يجوز بيع بعضه ببعض نسيئة وقرضه جائز، فكان من حجتنا على أهل هذه المقالة في تثبيت المقالة الأولى: نهى النبي -عليه السلام- عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة يحتمل أن يكون ذلك لعدم الوقوف منه على المثل، ويحتمل أن يكون من قبل ما قال أهل المقالة الأولى في الحنطة في البيع والقرض، فإن كان إنما نهى عن ذلك عن طريق عدم وجود المثل؛ ثبت ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية.

                                                وإن كان من قبل أنهما نوع واحد لا يجوز بيع بعضه ببعض نسيئة لم يكن في ذلك حجة لأهل المقالة الثانية على أهل المقالة الأولى.

                                                فاعتبرنا ذلك، فرأينا الأشياء المكيلات لا يجوز بيع بعضها ببعض نسيئة، ولا بأس بقرضها، ورأينا الموزونات حكمها في ذلك كحكم المكيلات سواء خلا الذهب والورق، ورأينا ما كان من غير المكيلات والموزونات مثل الثياب وما أشبهها فلا بأس ببيع بعضها ببعض وإن كانت متفاضلة، وبيع بعضها ببعض نسيئة فيه اختلاف بين الناس، فمنهم من يقول: ما كان منها من نوع واحد فلا يصلح بيع بعضه ببعض نسيئة، وما كان منها من نوعين مختلفين فلا بأس ببيع بعضه ببعض نسيئة، وممن قال بهذا القول: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد - رحمهم الله -.

                                                [ ص: 127 ] ومنهم من يقول: لا بأس ببيع بعضها ببعض يدا بيد، ونسيئة، وسواء عنده كانت من نوع واحد أو من نوعين، فهذه أحكام الأشياء المكيلات والموزونات والمعدودات غير الحيوان على ما فسرنا، فكان غير المكيل والموزون لا بأس ببيعه بما هو من خلاف نوعه نسيئة، وإن كان المبيع والمبتاع به ثيابا كلها، وكان الحيوان لا يجوز بيع بعضه ببعض نسيئة، وإن اختلفت أجناسه، لا يجوز بيع عبد ببعير ولا ببقرة ولا بشاة نسيئة، فلو كان النهي من النبي -عليه السلام- عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة إنما كان لاتفاق النوعين؛ لجاز بيع العبد بالبقرة نسيئة؛ لأنها من غير نوعه، كلما جاز بيع الثوب الكتان بالثوب القطن الموصوف نسيئة.

                                                فلما بطل ذلك في نوعه وفي غير نوعه؛ ثبت أن النهي في ذلك إنما كان لعدم وجود مثله، ولأنه غير موقوف عليه، وإذا كان إنما بطل بيع بعضه ببعض نسيئة لأنه غير موقوف عليه؛ بطل قرضه أيضا؛ لأنه غير موقوف عليه.

                                                فهذا هو النظر في هذا الباب.

                                                ومما يدل على ذلك أيضا ما قد أجمعوا عليه في الاستقراض من الإماء أنه لا يجوز وهي حيوان، فاستقراض سائر الحيوان في النظر أيضا كذلك.

                                                التالي السابق


                                                ش: هذه إشارة إلى بيان منع من جهة أهل المقالة الأولى لما قاله أهل المقالة الثانية من قولهم: لما نسخ جواز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة وحل في ذلك استقراض الحيوان أيضا، وتقرير المنع أن يقال: لا نسلم دخول استقراض الحيوان في انتساخ بيع الحيوان بالحيوان نسيئة؛ لأنا قد رأينا الحنطة لا يجوز بيع بعضها ببعض نسيئة ومع هذا فقرضها جائز، وكذلك الحيوان لا يجوز بيع بعضه ببعض نسيئة فقرضه جائز.

                                                وأجاب عن ذلك بقوله: فكان من حجتنا على أهل هذه المقالة... إلى آخره، وهو ظاهر لا يحتاج إلى مزيد بيان.

                                                قوله: "فمنهم من يقول" أي: فمن الفقهاء الذين لهم خلاف [في هذا الباب وأراد بهم: عطاء وإبراهيم النخعي وابن سيرين وعكرمة بن خالد ومحمد بن الحنفية والثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدا - رحمهم الله -.

                                                [ ص: 128 ] قوله: "ومنهم من يقول" أراد بهم: سعيد بن المسيب والأوزاعي والشافعي ومالكا في رواية وأحمد، وقال مالك في "الموطأ": لا بأس أن يشترى الثوب من الكتان أو الشطوي أو القصبي بالأثواب من الإتريبي أو القسي أو الزيقة أو الثوب الهروي أو المروي بالملاحف اليمانية والشقائق وما أشبه ذلك، الواحد بالاثنين أو الثلاثة، من صنف واحد، فإن دخل ذلك نسيئة فلا خير فيه.

                                                وقال ابن زرقون في "شرحه": أصل ذلك أن ما اختلف جنسه من الثياب يجوز بيعه بما خالفه من جنسه إلى أجل، ولا يجوز ذلك فيما كان من جنسه، وإنما يختلف جنسها بالرقة والغلظ؛ لأنها المنفعة المقصودة منها، فلا بأس برقيق ثياب الكتان وهو الشطوي والقصبي والزيقة والمريسية إلى أجل.

                                                وكذلك القطن رقيقه وهو المروي والهروي والقوهي والعدني جنس مخالف لغليظه وهي الشقائق والملاحف اليمانية الغلاظ.

                                                وفي "الواضحة": ثياب القطن صنف واحد وإن اختلفت جودتها وأثمانها وبلدانها، وكانت هذه عمائم وهذه أردية وشقق إلا ما كان من وشي القطن الصنعاني والصعيدي القصب والحبرة والمشطب والمسير وشبهه فلا بأس به ببياض ثياب القطن متفاضلا إلى أجل، وكذلك ثياب القصب بثياب القطن لاختلاف المنافع والجمال، وما اختلف أيضا في الرداءة والجودة والرقة والغلظ فتباين في نفسه وجماله جاز فيهما التفاضل إلى أجل.

                                                وكذلك ثياب الكتان صنف واحد إلا أن تتباين بالرقة والغلظ والرداءة والجودة فيجوز فيهما التفاضل إلى أجل.

                                                وقال الشافعي: لا ربا إلا في المأكول والمشروب والذهب والفضة، وهو قول ابن المسيب والأوزاعي .

                                                وقال أحمد: ما لا يكال ولا يوزن يجوز فيه التفاضل ولا يجوز نسيئة.

                                                [ ص: 129 ] وقال سليمان بن يسار: لا يصلح ثوب بثوبين إلا يدا بيد.

                                                وقال الليث: نسيج مصر كله صنف واحد، لا يجوز فيه النساء بعضه ببعض، ويجوز نسيج مصر بنسيج العراق نسيئة.

                                                قوله: "ما قد أجمعوا عليه في استقراض الإماء أنه لا يجوز" أراد بهذا الإجماع: إجماع الأئمة الأربعة لا إجماع الفقهاء كلهم، فإن المزني وابن جرير الطبري وداود الأصفهاني أجازوا استقراض الإماء، وقد مر الكلام فيه عن قريب.




                                                الخدمات العلمية