: استدل أصحاب هذا القول بما يلي: أدلة القول الخامس: (عدم الجواز مطلقا )
1 - قوله تعالى: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون .
فالله تعالى قد عاب على العرب ما كانت تفعل من تسييب البهائم وحمايتها، وحبس أنفسها عنها.
ونوقش هذا الاستدلال: بأنه لا حجة فيه; لأن الله سبحانه عاب عليهم أن يتصرفوا بعقولهم بغير شرع توجه إليهم، أو تكليف فرض عليهم، بينما الوقف ورد به الشرع في أدلة كثيرة سبق ذكر طرف منها.
(27 ) 2 - ما رواه من طريق الدارقطني محمد وعبد الله ابني أبي بكر وعمرو بن دينار، عن بكر بن حازم عبد الله بن زيد بن عبد ربه رضي الله عنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن حائطي هذا صدقة، وهو إلى الله ورسوله. فجاء أبواه فقالا: يا رسول الله، كان قوام عيشنا، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ماتا فورثهما ابنهما ». [ ص: 92 ] أن
وجه الدلالة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد وقف عبد الله بن زيد رضي الله عنه، فدل على عدم مشروعيته.
ونوقش الاستدلال بالحديث من وجوه:
الأول: أن الحديث ضعيف.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطل الوقف; لأنه تصدق بجميع ما يملك، وليس لأحد أن يضر بنفسه وبمن يعول، ويدل لهذا قولهما: « ». يا رسول الله، كان قوام عيشنا.
الثالث: أن الحائط كان ملكا لأبويه فتصرف فيه بغير إذنهما ولم ينفذاه، بدليل أنه جاء في الحديث: « ». ثم ماتا، فورثهما ابنهما
3 - ما روي عن رضي الله عنهما قال: « ابن عباس لما نزلت سورة النساء وفرضت فيها الفرائض، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا حبس عن فرائض الله -عز وجل- ».
(28 ) 4 - ما رواه من طريق الطحاوي عن زياد بن سعد، أن ابن شهاب رضي الله عنه قال: « عمر لولا أني ذكرت صدقتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لرددتها ». [ ص: 93 ]
ونوقش من وجهين:
الأول: أنه منقطع.
الثاني: قال « ونحن نبت ونقطع بأن ابن حزم: رضي الله عنه لم يندم على قبوله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما اختاره له في تحبيس أرضه، وتسبيل ثمرتها، والله تعالى يقول: عمر وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ، وليت شعري إلى أي شيء كان يصرف تلك الصدقة لو ترك ما أمره به عليه الصلاة والسلام فيها؟ حاشا عمر هذا ». عمر
5 - ما روي عن أنه قال: « جاء شريح محمد ببيع الحبس ».
وهذا الدليل استدل به أيضا أصحاب القول الثالث، وقد سبق مناقشة الاستدلال به.
6 - أن شريحا - وهو قاضي عمر، وعلي الخلفاء الراشدين المهديين رضوان الله عليهم أجمعين - قال: « وعثمان، ». لا حبس عن فرائض الله
فعن قال: سألت عطاء بن السائب عن رجل جعل داره حبسا على الآخر، فالآخر من ولده؟ فقال: « إنما أقضي ولست أفتي ». شريحا
قال: فناشدته. فقال: « لا حبس على فرائض الله ».
وهذا لا يسع القضاة جهله.
ولا يسع الأئمة تقليد من يجهل مثله، ثم لا ينكر عليه منكر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا من تابعيهم رحمة الله عليهم. [ ص: 94 ]
ونوقش هذا الاستدلال:
أن قولهم: « إن هذا لا يسع القضاة جهله، ولا يسع الأئمة تقليد من يجهل مثله ، ناقشه رحمه الله فقال: « هلا قالوا هذا في كل ما خالفوا فيه ابن حزم، وأي نكرة في جهل شريحا، سنة وألف سنة ». شريح
ثم ذكر أنه غاب عن كثير من الصحابة كثير من الأحكام، فغاب عن نسخ التطبيق، وغاب عن ابن مسعود ميراث الجدة، وغاب عن أبي بكر أخذ الجزية من المجوس سنين، وإجلاء الكفار من جزيرة العرب إلى آخر عام من خلافته. عمر
قال: « ومثل هذا لو تتبع لبلغ أزيد من ألف سنة غابت عمن هو أجل من ولو لم يستقض إلا من لا تخفى عليه سنة، ولا تغيب عن ذكره ساعة من دهر حكم من أحكام القرآن ما استقضي أحد ولا قضى ولا أفتى أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن من جهل عذر، ومن علم غبط ». شريح،
وقد عتب على مالك قال الإمام شريح: « تكلم مالك: ببلاده ولم يرد المدينة، فيرى آثار الأكابر من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين بعدهم، وهلم جرا إلى اليوم، وما حبسوا من أموالهم لا يطعن فيه طاعن، وهذه صدقات النبي صلى الله عليه وسلم سبعة حوائط، وينبغي للمرء ألا يتكلم إلا فيما أحاط به خبرا ». شريح
وتأول ابن يونس قول شريح بأنه يورث، على معنى أنه لا يزيل الملك، كقول أبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة.
(29 ) قال الخلال: أخبرنا عبد الملك بن عبد الحميد الميموني: أنه [ ص: 95 ] سأل أبا عبد الله: أيش معنى قول جاء شريح محمد يبيع الحبس؟ قال لي: لأنه لم يكن هذه الحبس، يعني: الوقوف، وأن ذاك كان في الجاهلية ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ثم قال أبو عبد الله: « بلغني أن قال: ما حج مالكا قط، ما مر شريح بمكة فنظر إلى الدور فسأل عنها، هذه دار لطلحة حبيس، وهذه الدار لفلان حبيس، وهذه الدار لفلان حبيس ».
(30 ) 3 - ما روى عن ابن حزم قال: « ما من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد أوقف وحبس أرضا، إلا الواقدي عبد الرحمن بن عوف عوف رضي الله عنه فإنه كان يكره الحبس ».
فكراهية رضي الله عنه للحبس دليل على أن عبد الرحمن بن عوف الحبس غير جائز.
ونوقش:
أن هذا الدليل أورده ورده بقوله: هذه رواية أخباث، فإنها زادت ما جاءت فيه ضعفا. وعلى كل حال فلو فرض صحة هذا الأثر، فإنه دليل على صحة الوقف وجوازه; وذلك لأنه يشير إلى أن جميع الصحابة رضوان الله عليهم قد وقفوا الأراضي ما عدا عبد الرحمن، وعامة الصحابة لا يتصور منهم الاتفاق على عمل لا يجوز في الشريعة. ابن حزم
أما كراهية عبد الرحمن: فإنه ربما هو استنتاج من الراوي لعدم وقفه، وربما أنه فعلا كره أن يقف لا لعدم جوازه، ولكن لأمور خاصة متعلقة [ ص: 96 ] على أنه لو كان رضي الله عنه لا يرى جواز الوقف، فإنه معارض بالأحاديث الصحيحة، وبعمل عامة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(31 ) 8 - وقال « وباع البخاري: حسان حصته منه من معاوية، فقيل له: تبيع صدقة ». أبي طلحة؟
ونوقش هذا الاستدلال: بأن الصحابة رضي الله عنهم أنكروا ذلك عليه.
9 - أن الوقف تبرع بالمنفعة وهي معدومة وقت إنشائه، وتمليك المعدوم لا يصح.
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: أنه لم يرد في الشريعة المنع من تمليك المعدوم مطلقا، بل جازت بل والمعاوضة عليه في بعض الصور. هبة المعدوم، والوصية به،
الثاني: أنه لو منع من تمليك المعدوم، فهذا في عقود المعاوضات لبنائها على المشاحة دون عقود التبرعات لبنائها على المسامحة.
الترجيح: الراجح - والله أعلم - قول جمهور أهل العلم; لقوة أدلتهم، ومما يؤيد قول جمهور أهل العلم: أن رجع بعد المناظرة التي دارت بينه وبين الإمام أبا يوسف بحضرة مالك الرشيد، فظهر عليه وقال: « هذه أوقاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقلها أهل مالك، المدينة خلفهم عن سلفهم » قال الباجي: « وهذا فعل أهل الدين والعلم في الرجوع إلى الحق حين ظهر وتبين ».
حتى إن استبعد قول محمد بن الحسن وسماه تحكما على الناس من غير حجة، فقال: « ما أخذ الناس بقول أبي حنيفة، وأصحابه إلا [ ص: 97 ] بتركهم التحكم على الناس، فإذا كانوا هم الذين يتحكمون على الناس بغير أثر ولا قياس لم يقلدوا هذه الأشياء. [ ص: 98 ] أبي حنيفة