الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المبحث الثاني: تاريخ الوقف عند غير المسلمين

        يقول الإمام الشافعي رحمه الله: « لم يحبس أهل الجاهلية - فيما علمته - دارا، ولا أرضا تبررا بحبسها، وإنما حبس أهل الإسلام.

        الأمم - على اختلاف أديانها ومعتقداتها - تعرف أنواعا من التصرفات المالية لا تخرج - في معناها - عن حدود معنى الوقف عند المسلمين; وذلك لأن جميع الأمم - قبل الإسلام وبعده - كانت تعبد آلهة على الطريقة التي تعتقدها، وكان هذا داعيا لأن يكون لكل أمة معبد، ولكل عقيدة طقوس، ولكل ذلك أناس يقومون بها ويختصون بأمرها; فكان لا بد لهذه المعابد من عقار يرصد لها، وينفق من غلاته على القائمين بأمرها، ولا توجيه لهذا إلا على أنه وقف أو في معنى الوقف.

        ولا أدل على وجود الوقف قبل الإسلام من وقف الكعبة المشرفة.

        أولا: الوقف عند قدماء العراقيين:

        عرف العراقيون القدماء في العهد البابلي أنواعا من التصرفات المالية التي لها شبه بالوقف.

        فكانوا يعرفون نوعا من حق الانتفاع، حيث كان الملك يهب لبعض موظفيه حق الانتفاع من بعض أراضيه، وصورته: أن يستغل المنتفع الأرض [ ص: 132 ] بجميع أنواع الاستغلال المشروعة، ولكن من دون أن تنتقل ملكيتها إليه، وعليه لم يكن له حق التصرف بها ببيع أو نحوه.

        وكان القانون يجيز أن ينتقل حق الانتفاع من هذه الأراضي إلى الورثة على نظام من الاستحقاق الترتيبي، مشروط ببعض الشروط.

        ثانيا: الوقف عند قدماء المصريين:

        عرفت مصر - في تاريخها القديم - الوقف مع شيء من الاختلاف في بعض التفصيلات، فكانت الإقطاعيات ترصد على الآلهة والمعابد والمقابر، لتصرف غلتها على بعض شئونها من إصلاح، وإدامة، وتيسير إقامة الشعائر، والإنفاق على الكهنة والخدام، وكان الناس وقتها مدفوعين إلى هذا التصرف بقصد فعل الخير والتقرب من الآلهة.

        كما أن التاريخ يحدثنا أن رمسيس الثاني قد منح معبد « أبيدوس » أملاكا واسعة، وأجريت الطقوس لنقل ملكية هذه الأعيان إلى المعبد أمام جمع كبير من الرعايا، مما جعل الناس يقتدون بهذا الفعل.

        بل إن مصر قد عرفت الوقف الذري « الأهلي »، من حيث حبس الأعيان عن التملك والتمليك، وجعل ريعها مرصودة على الأسرة أو على الأولاد، ومن بعدهم على أولادهم ينتفعون بغلتها دون أن يملك أحدهم حق التصرف في أعيانها بشكل يثبت للغير ملكية عليها.

        ثالثا: الوقف عند الرومان:

        عرف الرومان نظام مؤسسات الكنيسة، والمؤسسات الخيرية التي تقوم على رعاية الفقراء والعجزة. [ ص: 133 ]

        وهي كلها تتضمن معنى: رصد الأموال لإنفاقها على وجه من وجوه البر والخير.

        ويرى الرومان أن الأشياء المقدسة - وهي التي جعلت لله بحسب الطقوس التي تقوم بها الكهنة، وذلك كالمعابد، والنذور، والهدايا، وغيرها من الأشياء المخصصة بحسب الأصول لإقامة الشعائر الدينية - لا يجوز أن تباع ولا أن ترهن، ولا يجوز لأحد أن يتملكها; لأنها من حقوق الله، وما كان كذلك فلا يملكه أحد.

        جاء في مدونة جستنيان: « الأشياء المقدسة والأشياء الدينية والأشياء الحرام لا يملكها أحد; إذ ما كان الله فلا يملكه إنسان ».

        كما أنهم يرون أن المكان المقدس إذا انهدم بناؤه، فإن أرضه تبقى مقدسة.

        رابعا: الوقف عند الجرمانيين:

        للجرمانيين نظام له شبه قريب في أصل الوقف وهيكله، ففيه يرصد المالك ماله على أسرة معينة مدة محدودة، أو إلى حين انقراضها، وقد يكون الاستحقاق فيه لجميع الأسرة، وقد يكون لبعضها، وقد يكون للذكور ومن بعدهم للإناث، ولهم طرائق مختلفة في ترتيب طبقات الاستحقاق.

        والأصل فيه: أنه لا يباع، ولا يوهب، ولا تورث رقبته، وليس للمستحق فيه سوى المنفعة، والخلافة فيه تختلف عن الخلافة في الإرث. [ ص: 134 ]

        خامسا: الوقف عند الفرنسيين:

        في القانون الفرنسي اليوم نوع من التصرفات المالية التي لها شبه بالوقف الذري « الأهلي »، فقد أباح القانون أن يهب الأب أو يوصي بعقار إلى ولده بشرط أن ينتفع به مدة حياته، ثم ينقله إلى أولاده من بعده أو إلى أخ كذلك مثلا، ويطلق على هذا التصرف في القانون الفرنسي اسم « الهبة المتنقلة »، والانتقال يكون من درجة واحدة بلا فارق في الانتفاع بين ذكر وأنثى.

        والدافع إلى هذا الاستثناء - حيث منع القانون الهبة المتنقلة فيما بين غير الأقارب - هو الرغبة في السماح للأب أو للأخ بوقاية الصغير من إسراف وتبذير مورثه، بغرض عدم جواز تملك جزء ولو صغيرا من أملاكه.

        أما الوقف الخيري: فإن القانون الفرنسي ينص عليه صراحة، ولنفس الغرض الذي يوقف المال من أجله.

        وقد عرفه القانون بأنه: « رصد شيء محدود من رأس المال على سبيل الدوام لعمل خيري عام أو خاص ». وأغراضه هي:

        1 - عمل خاص، كعمل (ختمة أو عتاقة ) لراحة روح المتوفى، أو إيجاد كرسي في كنيسة للمتوفى ولعائلته، فهو ثمن خدمة يعود نفعه على الشخص نفسه.

        2 - عمل لغرض عام، كإنشاء مستشفى، أو ملجأ للعجزة، أو مدرسة.

        سادسا: الوقف في النظام الأنجلو أمريكي:

        يعرف النظام الأنجلو أمريكي اليوم نوعا من التصرفات المالية يسمى: « الترست » (The Trast ) ، وقد عرفه معهد القانون الأمريكي بأنه: « علاقة [ ص: 135 ] أمانة خاصة بمال معين تلزم الشخص الذي يحوز هذا المال بعدة التزامات تهدف على استغلاله لصالح شخص آخر ».

        وعلى هذا فإن الشخص الذي يحوز المال - وهو الأمين أو الوصي - لا يستفيد من هذا المال لنفسه، بل لحساب شخص آخر هو المستفيد، بحيث تنفصل الملكية عن المنفعة.

        ويحقق نظام « الترست » الأهداف التالية:

        1 - توفير الحماية للأرامل والصغار.

        2 - القيام بكثير من الأعمال ذات النفع العام التي تعتمد على تبرعات الأفراد والهيئات الخاصة. [ ص: 136 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية