الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المسألة الرابعة: الوقف على المكتبات:

        أدرك كل الواقفين للمدارس، وزوايا العلم، وحلقات الدرس في المساجد أهمية الكتاب لنشر العلم، وأن الاقتصار على تشييد الأبنية وتوفير جهاز للتدريس غير كاف، فاهتموا بوقوف الكتب عليها لتكون وسيلة ميسرة للتحصيل والمراجعة توفر مادة علمية يستند إليها المعلم والمتعلم في وقت [ ص: 168 ] واحد، فأصبح من المعتاد وجود مكتبة في مدرسة، أو جامع، أو رباط وقف على طلبة العلم وغيرهم.

        وكان وقف الكتب بمكة في القرن الهجري الأول، كما في مكتبة عبد الحكيم بن عمرو الجمحي.

        وفي القرن الثاني ظهرت بيت الحكمة ببغداد، وكان من بين أقسامها مكتبة حظيت بعناية مجموعة من خلفاء بني العباس وبخاصة المأمون.

        ومكتبة بيت الحكمة كان الهدف من وراء إنشائها مساعدة العلماء والباحثين بتوفير أكبر قدر من مصادر المعلومات; لتسهيل سبل الدرس والمطالعة والتأليف والترجمة لمن يرغب في ذلك.

        وانتشرت خزائن الكتب الوقفية منذ القرن الرابع الهجري; بحيث يمكن القول بأنه قلما تخلو مدينة من كتب موقوفة.

        وبلغ من انتشار هذه الخزائن وتوافرها في الأندلس أن أبا حيان التوحيدي النحوي كان يعيب على مشتري الكتب، ويقول: الله يرزقك عقلا تعيش به، أنا أي كتاب أردته استعرته من خزائن الأوقاف.

        ويذكر ياقوت الحموي عن مدينة مرو: أنه كان فيها عشر خزائن للوقف، وذلك في القرن السابع الهجري، ويقول عنها:

        لم أر في الدنيا مثلها كثرة وجودة، منها خزانتان في الجامع إحداهما يقال لها العزيزية، وقفها رجل يقال له عزيز الدين أبو بكر عتيق الزنجاني...

        وفيها اثنا عشر ألف مجلد أو ما يقاربها، والأخرى يقال لها الكمالية وبها [ ص: 169 ] خزانة شرف الملك المستوفي أبي سعيد محمد بن منصور، وخزانة أخرى في المدرسة العميدية والضميرية في خانكاه هناك، وكانت هذه الخزائن سهلة التناول، لا يفارق منزلي منها مئتا مجلد، وأكثره من غير رهن ».

        وقال ابن جبير في رحلته إلى مصر بعد أن اطلع على أحوال مكتباتها ودور العلم فيها، وعاش في بعضها، واستفاد من أموالها الموقوفة: « ومن مناقب هذا البلد ومفاخره المدارس والمحارس الموضوعة فيه لأهل الطب والتعبد، يفدون من الأقطار النائية فيلقى كل واحد منهم مسكنا يأوي إليه ومدرسا يعلمه الفن الذي يريد تعلمه وإجراء يقوم به في جميع أحواله ».

        وكانت هذه المكتبات بكتبها الوقفية إضافة إلى المكتبات الخاصة، مثل مكتبات الخلفاء والأمراء والوزراء والعلماء، وراء حركة الازدهار العلمي التي شهدها العالم الإسلامي على مدى قرون طويلة، فقد اعتمد عليها العلماء وطلاب العلم في دراستهم، ومراجعاتهم، ومصنفاتهم.

        وقد حوت المكتبة التي أوقفها ابن قليس الوزير الفاطمي على غرف عديدة للمطالعة، وعلى قاعات خاصة للمحاضرات، وقاعة كبرى للمحاضرات، وقاعات عليها 1000 دينار شهريا، وأعطيت مرتبات شهرية من ريع هذا الوقف لطلبة العلم والعلماء والعاملين فيها، سواء أكانوا إداريين أم فنيين أم خدما.

        كذلك كانت الربط الإسلامية - وكلها اعتمدت على أموال موقوفة - مراكز مهمة لإيقاف الكتب وإنشاء خزائن كتب فيها، فخصصت أموال وقفية وفيرة [ ص: 170 ] على إدارتها وإدارة مكتباتها، وعين لإدارة مكتبات الربط هذه خزان وقوام يقومون بالمحافظة عليها وعلى صيانتها.

        ولقد وجدت بجانب هذه المكتبات في كثير من الأحيان، كذلك المراصد الفلكية التي كانت تتبع هذه المكتبات الموقوفة، حيث بنيت بجنبها مساكن للعلماء، سواء من كان يعمل في المكتبة أم في المرصد الفلكي، وقد ساهمت هذه المراصد الفلكية في نشر العديد من الرسائل بعلم الفلك.

        ويذكر ياقوت الحموي عن مدينة مرو الشاهجان، رواية عن عبد الله بن المبارك الذي عاش في هذه المدينة، وأثنى على أهلها لما فيهم من الرقة ولين الجانب وحسن العشرة، وأنه فارقها مرغما سنة 616هـ، ويقول لحظة فراقه لها: فإني فارقتها وفيها عشر خزائن للوقف لم أر في الدنيا مثلها كثرة وجودة، منها خزانتان في الجامع، إحداهما يقال لها العزيزية، وقفها رجل يقال له عزيز الدين أبو بكر عتيق الزنجاني، وفيها اثنتا عشرة ألف مجلد أو ما يقاربها، والأخرى يقال لها الكمالية لا أرى إلى من تنسب.

        وخزانة شرف الملك المستوفي المتوفى سنة 494هـ، وخزانة نظام الملك الحسن بن إسحاق في مدرسته، وخزانتان للسمعانيين، وخزانة أخرى في المدرسة العميدية.

        والخزانة الخاتونية في مدرستها، والضميرة في خانكاه هناك، وكانت سهلة التناول لا يفارق منزلي منها مئتا مجلد، وأكثره بغير رهن، قيمتها مئتا دينار، فكنت أرتع فيها وأقتبس من فوائدها.

        ولقد عرفت المكتبات بعدة أسماء مثل: خزانة الكتب، وبيت الكتب، ودار الكتب، ودار العلم، وبيت الحكمة، ودار القرآن، ودار الحديث. [ ص: 171 ]

        ويسرت هذه المكتبات العلم للراغبين فيه دون نفقات وعلى مختلف المستويات، حيث أسهمت الأوقاف في تعضيد وتقوية أسس التعليم عن طريق إيقاف هذه المكتبات والكتب، كما كان للخلفاء والأمراء الفضل في تأسيس المكتبات والإنفاق عليها من أموالهم الخاصة، « فقد قالوا: إنه كان عطاء محمد بن عبد الملك الزيات للنقلة والنساخ في مكتبته ألفي دينار كل شهر، وكان المأمون يعطي حنين بن إسحاق من الذهب زنة ما ينقله من الكتب إلى العربية مثلا بمثل ».

        ومن المكتبات التي قامت بدور حضاري مهم في التاريخ الإسلامي: المكتبة التي بناها ثم أوقفها « بنو عمار » في طرابلس الشام، وكانت آية في السعة والضخامة; إذ كان عدد النساخين فيها بلغ 180 ناسخا يتناوبون في العمل ليل نهار، بحيث لا ينقطع النسخ فيها، ويقال: حوت على مليون كتاب على أرجح الأقوال.

        أما دار العلم بالكرخ فهي مكتبة كبرى أوقفها الوزير أبو نصر أحد وزراء بني بويه المتوفى سنة (416 هـ ) وقيل: إنه لم يكن أحسن منها فهرسة وتنظيما.

        ومن المكتبات الخاصة التابعة للمدارس:

        - مكتبة المدرسة النظامية: وقد افتتحت سنة (459 هـ ) وعين لها خزان ومشرفون، وقد أوقف عليها نظام الملك الأموال لشراء نفائس الكتب في المستقبل من موارد هذه الأوقاف.

        - خزانة مدرسة المستنصرية: افتتحت سنة (613 هـ ) والتي يقول فيها ابن الفوطي في كتابه (الحوادث الجامعة ) : إن الخليفة المستنصر نقل إليها في يوم [ ص: 172 ] واحد من الكتب ما حمله مئة وستون حمالا عدا ما نقل إليها فيما بعد من كتب موقوفة أخرى، وقد رتبت حسب الفنون ليسهل استخدامها; إذ لا يوجد مثيل لها في العالم كما يقول ابن الفوطي، وقد جعلت مرجعا ليس لطلبة المدرسة فقط، بل بقيت مفتوحة للعلماء ولعامة الناس خارج أسوار الجامعة لينهلوا من معارفها.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية