الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المبحث الثاني: بيان حكمه، ودليله

        الوقف تدور عليه الأحكام الخمسة التكليفية، لكن اختلف العلماء، رحمهم الله تعالى، في الأصل فيه، هل هو المشروعية مطلقا، أو المنع؟ على أقوال:

        القول الأول: أن الوقف مستحب مندوب إليه.

        وهذا هو قول جمهور العلماء: الحنفية، والمالكية، والشافعية والحنابلة.

        قال الترمذي: « والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم لا نعلم بين المتقدمين منهم في ذلك اختلافا في إجازة وقف الأرضين، وغير ذلك ». [ ص: 67 ] وقال ابن حزم: « صدقات الصحابة بالمدينة أشهر من الشمس لا يجهلها أحد ».

        وقال الموفق ابن قدامة: « وأكثر أهل العلم من السلف ومن بعدهم على القول بصحة الوقف ».

        وقال النفراوي: « اختلف أهل الإسلام في حكمه، والصحيح - وهو مذهب الجمهور - جوازه بل ندبه; لأنه من أحسن ما تقرب به إلى الله تعالى ».

        وقال الشيرازي: « الوقف قربة مندوب إليها، ويجوز وقف كل عين ينتفع بها على الدوام ».

        وقال الخلال: أخبرنا محمد بن علي بن محمود الوراق: حدثنا صالح بن أحمد بن حنبل أنه قال لأبيه قول شريح: « لا حبس عن فرائض الله » قال أبي: هذا خلاف قول النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر، وسأله عن أرض أصابها، فقال: « احبسها وسبل ثمرتها ».

        وقال برهان الدين ابن مفلح: « وهو من القرب المندوب إليها. قال أحمد: من يرد الوقف إنما يرد السنة التي أجازها النبي صلى الله عليه وسلم، وفعلها أصحابه ».

        القول الثاني: التفصيل، فيصح في بعض الأشياء دون بعض. [ ص: 68 ]

        وبه قال ابن حزم.

        قال ابن حزم: « التحبيس - وهو الوقف - جائز في الأصول من الدور والأرضين بما فيها من الغراس والبناء إن كانت فيها، وفي الأرحاء، وفي المصاحف والدفاتر، ويجوز أيضا في العبيد، والسلاح، والخيل في سبيل الله وفي الجهاد فقط لا في غير ذلك ».

        القول الثالث: إن الوقف جائز شرعا في السلاح والكراع فقط، باطل فيما عدا ذلك.

        وبه قال إبراهيم النخعي.

        (3 ) أخرج ابن الجعد: ثنا عبد الله قال: ثنا علي قال: أنا أبو إسحاق الفزاري، عن المغيرة، عن إبراهيم: « لا حبيس إلا حبيس في سبيل الله. قال: من سلاح أو كراع ».

        القول الرابع: أن الوقف غير جائز إلا إذا اتصل به قضاء القاضي، أو أضافه إلى ما بعد الموت بأن قال: إذا مت فقد جعلت داري أو أرضي وقفا على كذا، أو قال: هو وقف في حياتي صدقة بعد وفاتي.

        وبه قال أبو حنيفة نقله عنه متقدمو أصحابه، وحمله المتأخرون من أصحابه على أن المراد به: أنه غير لازم، أما أصل الجواز فثابت عنده. [ ص: 69 ]

        قال محمد بن الحسن: « كان أبو حنيفة لا يجيز شيئا من الحبس على وجه من الوجوه إلا في خصلة واحدة في الوصية عند الموت ».

        وجاء في وقف هلال: « قلت: أرأيت رجلا قال: أرضي هذه، وسمى حدودها، صدقة موقوفة؟... قال أبو حنيفة: هذا كله باطل لا يجوز، ولا يكون وقفا، وله أن يحدث فيه ما بدا له بعد ذلك ».

        وقال السرخسي: « وظن بعض أصحابنا أنه غير جائز على قول أبي حنيفة، وإليه يشير في ظاهر الرواية، فنقول: أما أبو حنيفة فيجيز ذلك، ومراده أنه لا يجعله لازما، وأما أصل الوقف فثابت عنده ».

        وقال الكاساني: « ولا خلاف أيضا في جوازه في حق زوال ملك الرقبة إذا اتصل به قضاء القاضي، أو أضافه إلى ما بعد الموت ».

        القول الخامس: أن الوقف لا يجوز مطلقا.

        وبه قال الشعبي، وشريح.

        قال السرخسي: « سئل الشعبي عن الحبس فقال: جاء محمد صلى الله عليه وسلم ببيع الحبس ».

        وقال الموفق ابن قدامة: « ولم ير شريح الوقف، وقال: لا حبس عن فرائض الله » [ ص: 70 ] الأدلة:

        أدلة القول الأول: (مشروعية الوقف ) :

        استدل أصحاب هذا القول بما يلي:

        1 - قوله تعالى: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون .

        (4 ) فقد روى البخاري ومسلم من طريق إسحاق بن عبد الله أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: ... فلما نزلت هذه الآية قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله، إن الله يقول: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ، وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها حيث أراك الله، فقال: « بخ، ذلك مال رابح - أو رايح شك ابن مسلمة - وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين ».

        وبوب له البخاري: باب: إذا وقف أرضا ولم يبين الحدود فهو جائز، وكذلك الصدقة.

        2 - قوله تعالى: إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين .

        وجه الدلالة: قال السعدي: « وآثارهم، وهي آثار الخير، وآثار الشر التي كانوا هم السبب في إيجادها في حال حياتهم...، أو عمل خيرا من صلاة أو زكاة أو صدقة، أو إحسان فاقتدى به غيره، أو عمل مسجدا، أو محلا من المحال التي يرتفق بها الناس... ». [ ص: 71 ]

        3 - قوله تعالى: وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ، وقوله تعالى: فاستبقوا الخيرات ، وقوله تعالى: وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ، وقوله تعالى: وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ، وقوله تعالى: وما يفعلوا من خير فلن يكفروه ، وقوله تعالى: وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون وجه الدلالة: أن هذه الآيات ونحوها دلت على الإحسان على الفقراء والمساكين، والأقارب، والمسارعة إلى فعل الطاعات ووجوه الخير المتنوعة، ومن أعظم طرق ذلك ووسائله الوقف.

        (5 ) 4 - ما رواه البخاري من طريق نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه قال: أصاب عمر بخيبر أرضا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أصبت أرضا لم أصب مالا قط أنفس فيه فكيف تأمرني به؟ قال: « إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها »، فتصدق عمر أنه لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث في الفقراء، والقربى، والرقاب، وفي سبيل الله، والضيف، وابن السبيل لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقا غير متمول فيه ».

        قال النووي: « وفي هذا الحديث دليل على صحة أصل الوقف، وأنه مخالف لسوائب الجاهلية ». [ ص: 72 ]

        قال ابن حجر: « وحديث عمر هذا أصل في مشروعية الوقف ».

        (6 ) 5 - ما رواه البخاري من طريق طلحة بن أبي سعيد قال: سمعت سعيدا المقبري يحدث أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله، وتصديقا بوعده; فإن شبعه، وريه، وروثه، وبوله في ميزانه يوم القيامة ».

        قال ابن حجر: « قال المهلب وغيره: في هذا الحديث جواز وقف الخيل للمدافعة عن المسلمين، ويستنبط منه جواز وقف غير الخيل من المنقولات، ومن غير المنقولات من باب الأولى ».

        (7 ) 6 - ما رواه الترمذي من طريق أبي مسعود الجريري، عن ثمامة بن حزن القشيري قال: شهدت الدار حين أشرف عليهم عثمان، فقال: « ائتوني بصاحبيكم اللذين ألباكم علي، قال: فجيء بهما فكأنهما جملان أو كأنهما حماران، قال: فأشرف عليهم عثمان فقال: أنشدكم بالله والإسلام هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من يشتري بئر رومة، فيجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة؟ فاشتريتها من صلب مالي ». [ ص: 73 ] [ ص: 74 ] [ ص: 75 ] [ ص: 76 ]

        فهذا الحديث أورده كل من الدارقطني والبيهقي في الأوقاف كدليل على اتخاذ السقايات.

        (8 ) 7 - ما رواه ابن ماجه من طريق مرزوق بن أبي الهذيل، حدثني الزهري، حدثني أبو عبد الله الأغر، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، ومصحفا ورثه، أو مسجد بناه، أو بيتا لابن السبيل [ ص: 77 ] بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه من بعد موته ».

        فقد أورده ابن خزيمة في كتاب الصدقات والأحباس دليلا على فضل بناء السوق لأبناء السابلة، وحفر الأنهار للشارب.

        (9 ) 8 - ما رواه مسلم من طريق العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ».

        قال النووي: « فيه دليل لصحة أصل الوقف وعظيم ثوابه، فالصدقة الجارية في الوقف ».

        (10 ) 9 - ما رواه البخاري من طريق أبي إسحاق، عن عمرو بن الحارث ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخي جويرية بنت الحارث قال: « ما ترك [ ص: 78 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته درهما، ولا دينارا، ولا عبدا ولا أمة، ولا شيئا إلا بغلته البيضاء وسلاحه، وأرضا جعلها صدقة ».

        قال ابن حجر: « إنه تصدق بمنفعة الأرض، فصار حكمها حكم الوقف ».

        كذلك أورده النسائي، وجعله أول حديث في كتاب الأحباس.

        (11 ) 10 - ما رواه أبو داود: حدثنا هشام بن عمار، حدثنا حاتم بن إسماعيل، ح، وحدثنا سليمان بن داود المهري، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عبد العزيز بن محمد، ح، وحدثنا نصر بن علي، حدثنا صفوان بن عيسى - وهذا لفظ حديثه - كلهم عن أسامة بن زيد، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: كان فيما احتج به عمر رضي الله عنه أنه قال: « كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث صفايا: بنو النضير، وخيبر، وفدك، فأما بنو النضير فكانت حبسا لنوائبه، وأما فدك فكانت حبسا لأبناء السبيل، وأما خيبر فجزأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء: جزءين بين المسلمين، وجزءا نفقة لأهله، فما فضل عن نفقة أهله جعله بين فقراء المهاجرين ». [ ص: 79 ]

        (12 ) 11 - ما رواه البيهقي من طريق الأعمش، عن إبراهيم، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم « جعل سبع حيطان له بالمدينة صدقة على بني عبد المطلب، وبني هاشم ».

        (13 ) 12 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها أن فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى أبي بكر رضي الله عنه تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة، وفدك، وما بقي من خمس خيبر.

        فقال أبو بكر رضي الله عنه: إن رسول الله قال: « لا نورث، ما تركناه صدقة، إنما يأكل آل محمد في هذا المال »، وإني والله لا أغير شيئا من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى حالها التي كانت عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.


        (14 ) 13 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق عبد الله بن كعب قال: سمعت كعب بن مالك يقول: قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من [ ص: 80 ] مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، قال: « أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك » قلت: أمسك سهمي الذي بخيبر.

        وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقره على وقف بعض ماله، وهذا الحديث عقد له الإمام البخاري بابا أسماه: باب إذا تصدق، أو وقف بعض ماله، أو بعض رقيقه، أو دوابه فهو جائز.

        (15 ) 14 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق أبي التياح قال: حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أمر بالمسجد وقال: « يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا ». قالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله.

        فقد أقر الرسول صلى الله عليه وسلم صدقتهم هذه، وقبلها.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية