الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المسألة الثالثة: الوقف على المدارس:

        بدأ إنشاؤها بعد أن استقرت حركة الفتوحات الإسلامية نسبيا، وبعد أن تضاعف إقبال طلاب العلم على حلقات المساجد، وكثر بناء هذه المدارس حتى ملأت مدن العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، ويذكر التاريخ نفرا من أمراء المسلمين كانت لهم اليد الطولى في إنشاء المدارس في مختلف الأمصار، منهم صلاح الدين الأيوبي الذي أنشأ المدارس في جميع المدن التي كانت تحت سلطانه في مصر، ودمشق، والموصل، وبيت المقدس، ونور الدين الشهيد الذي ملأ بلاد العراق وخراسان بالمدارس حتى قيل: إنه في كل مدينة في العراق وخراسان مدرسة، وكان هذا الوزير كلما وجد في [ ص: 162 ] بلدة عالما تميز وتبحر في العلم بنى له مدرسة، ووقف عليها وقفا، وجعل فيها دار كتب.

        وبجانب هؤلاء العظماء كان الأمراء والأغنياء، والتجار يتسابقون في بناء المدارس والوقوف عليها بما يضمن استمرار وإقبال الطلاب على الدراسة فيها، وكثيرون جدا هم الذين جعلوا بيوتهم مدارس، وجعلوا ما فيها من كتب وما يتبعها من عقار وقفا على طلاب العلم الدارسين فيها.

        حتى إن ابن جبير الرحالة الأندلسي هاله ما رأى في المشرق من كثرة المدارس والغلات الوافرة التي تغلها أوقافها، فدعا المغاربة أن يرحلوا إلى المشرق لتلقي العلم.

        ومما يؤكد ما قاله ابن جبير ما جاء من قصيدة عن مدارس دمشق، قال فيها ناظمها:


        ومدارس لم تأتها في مشكل إلا وجدت فتى يحل المشكلا     ما أمها امرؤ يكابد حيرة
        وخصاصة إلا اهتدى وتحولا     وبها وقوف لا يزال مغلها
        يستنقذ الأسرى ويغني العيلا     وأئمة تلقي الدروس وسادة
        شفي النفوس وداؤها قد أعضلا

        ويكفي برهانا على كثرة أوقاف المدارس والمساجد في دمشق أن النووي لم يكن يأكل من فواكه دمشق طيلة حياته; لأن أكثر غوطتها وبساتينها أوقاف. [ ص: 163 ] وإذا كانت دمشق قد اشتهرت بكثرة مدارسها والأوقاف التي حبست عليها، فإن غيرها من الحواضر الإسلامية كبغداد، وقرطبة، والكوفة، والبصرة، والقيروان، والقاهرة كثرت فيها المدارس.

        وكل ذلك جاء ثمرة من ثمرات الأموال الموقوفة التي خصصت للدراسة العلمية.

        ويتحدث ابن خلدون عما شاهده في القاهرة من التطور العلمي والحضاري، فيذكر أن هذا التطور مرده إلى الأموال الموقوفة من أراض زراعية ومبان وبيوت وحوانيت، وأن هذه الأموال التي حبست على المؤسسات التعليمية في القاهرة أدت إلى أن يفد إلى هذه المدينة طلبة علم وعلماء من مغرب العالم الإسلامي ومن مشرقه في سبيل الحصول على العلم المجاني، وبذلك نما العلم وازدهر في مختلف الفروع والتخصصات.

        وكانت الدراسة في تلك المدارس تشبه الدراسة الثانوية والعالية في عصرنا الحاضر، وكان التعليم فيها لجميع أبناء الأمة دون تفرقة بين فئة وأخرى، وكان الطلاب الذين يدرسون فيها نوعين:

        النوع الأول:

        الغرباء الذين وفدوا من بلاد نائية، ويدخل مع هؤلاء الذين لا تساعدهم أحوالهم المادية أن يعيشوا على نفقات آبائهم، وكان لهذا النوع من الطلاب غرف خاصة للنوم ومكتبة ومطبخ وحمام، وهو قسم داخلي.

        والنوع الثاني:

        من الدارسين: يمثلون الطلاب الذين يرغبون في أن يرجعوا في المساء إلى أهليهم وذويهم، وهؤلاء في قسم خارجي. [ ص: 164 ] وكلا النوعين يدرس مجانا، وكانت بعض المدارس بالإضافة إلى ما تقدمه لطلابها من علم ترعاهم صحيا، فقد كان بجوار بعض المدارس مستشفى لعلاج المرضى من الطلاب بالمجان.

        وعرفت المدارس التخصص العلمي في إنشائها، حيث كانت تقام المدارس لنوع واحد من فروع العلم، ومن ثم كانت هناك مدارس لتدريس القرآن وتفسيره وحفظه وقراءته، ومدارس للحديث خاصة، ومدارس - وهي أكثرها - للفقه لكل مذهب فقهي مدرسة خاصة به، ومدارس للطب، وأخرى في كل مجال من مجالات التخصص العلمي.

        يقول ابن كثير في حوادث سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة: « فيها كمل بناء المدرسة المستنصرية ببغداد ولم يبن مدرسة قبلها، ووقفت على المذاهب الأربعة، من كل طائفة اثنان وستون فقيها، وأربعة معيدين، ومدرس لكل مذهب وشيخ حديث، وقارئان وعشرة مستمعين، وشيخ طب، وعشرة من المسلمين يشتغلون بعلم الطب، ومكتب للأيتام، وقدر للجميع من الخبز واللحم والحلوى والنفقة ما فيه كفاية وافرة لكل واحد ».

        والدراسة في تلك المدارس مفتوحة لكل راغب في العلم دون قيد أو شرط، وكان طلاب هذه المدارس يتمتعون بكل الرعاية من طعام وشراب وعلاج وإقامة للغرباء والفقراء، وكان الأساتذة الذين يقومون بالتدريس فيها ينتخبون ممن شهد لهم الشيوخ بالكفاءة العلمية للعمل، وكان المتخرجون من هذه المدارس يمنحون إجازة علمية باسم شيخ المدرسة، وما كان يسمح للأطباء بممارسة مهنة الطب إلا بعد نيل هذه الشهادة أو الإجازة من كبير أطباء المدرسة.

        ومن العلماء الذين درسوا في بعض المدارس أو كانوا شيوخا لها: [ ص: 165 ]

        النووي، وابن الصلاح، والسبكي، وغيرهم كانوا يدرسون في دار الحديث في دمشق، والغزالي، وإمام الحرمين الجويني، والفيروزآبادي صاحب القاموس المحيط، وأبو إسحاق الشيرازي، وغيرهم كانوا يدرسون في المدرسة النظامية في بغداد.

        ونعطي هنا مثالا للمدارس التي نشأت ابتداء كمؤسسات وقفية، وكانت تقوم مقام الجامعات في وقتنا الحاضر:

        أ - المدرسة الصالحية بمصر أول مدرسة درست المذاهب الأربعة بمصر، أنشأها الملك الصالح نجم الدين أيوب سنة 641هـ، على غرار المستنصرية ببغداد، وأوقفت عليه أوقاف ضخمة.

        ب - المدرسة الظاهرية التي أنشأها الظاهر بيبرس في القاهرة سنة 626 هـ - وأوقف عليها المال، وأغدق عليها مما جعلها أجمل مدرسة في مصر، وخصص لها مكتبة ضخمة تحتوي على سائر العلوم.

        ج - المدرسة المنصورية في مصر، أنشأها المنصور بن قلاوون سنة 183 هـ - وتخصصت في تدريس الطب بالدرجة الأولى، وأوقف عليها القبة المنصورية التي هي مرصد فلكي أوقافه واسعة من الحوانيت والأطيان.

        د - المدرسة المسعودية ببغداد، بناها مسعود الشافعي، وجعلها وقفا على المذاهب الأربعة بجانب تدريس العلوم الطبية.

        - المدرسة الصلاحية بحلب، أوقفها الأمير صلاح الدين يوسف الدوادار. [ ص: 166 ]

        و - المدرسة الغياثية، أو مدرسة المنصور بمكة المكرمة بناها المنصور غياث الدين، إذ أنشئت في 813 هـ، وأوقف عليها أموالا جليلة.

        ز - المدارس الأربعة بمكة المكرمة التي بناها السلطان سليمان القانوني سنة 923 هـ، وأوقف عليها أموالا طائلة لتدريس المذاهب الأربعة.

        ولم تكن هذه المدارس تعود للدولة، بل هي من مدارس خاصة عضدت بالأموال الموقوفة عليها.

        ونذكر هنا أيضا رسالة بعث بها أحد الواقفين إلى أحد النظار على الوقف بالدار البيضاء عام 1319 هـ جاء في الرسالة:

        « ...وبعد فنأمرك أن تنفذ للمدرسين الواردين لهناك من فاس بقصد التدريس وبث العلم - دارا من دور الأحباس لنزولهما، وعشرين ريالا للواحد من مدخول الأحباس في كل شهر، حتى تكمل مدتهما، وهي سنة واحدة ليعين بدلهما عند انقضائهما، بحول الله على يد قاضي فاس، والسلام ».

        ومن ذلك أوقاف مدرسة العطارين بفاس، حيث وقف عليها حانوتا وقطعة من أراضي الزيتون ومن الأجنحة.

        ومن هنا، فقد بقي العلماء مستقلين عن السلطة غير خاضعين لها، معتمدين على الأموال الموقوفة التي تغدق عليهم.

        أكثر من ذلك أن القضاة منهم بقوا كذلك قوة غير خاضعة لرغبات السلطة عندما كانت تحاول أن تعتدي على حرية القضاء.

        كما أجبروا السلطة على الخضوع لقيم الشريعة، كما فعل العز بن عبد السلام في أحكامه ضد السلاطين الأتراك، وكما فعل البلقيني ضد المماليك، وكما فعل أبو حنيفة مع الخليفة المنصور عند اجتماعه بالفقهاء [ ص: 167 ] .

        وابن خلدون يتحدث عما شاهده في القاهرة من التطور العلمي والحضاري والحياة المدنية، خاصة في تعليم العلوم التجريبية وهو يقول:

        كل هذه النشاطات العملية قد ساعد عليها ما حدث خلال القرنين اللذين سبقا زمانه، وخاصة زمان صلاح الدين الأيوبي الذي أوقف أراضي زراعية ومباني وبيوتا وحوانيت للمدارس، ثم على ما خصصه من بعده الأمراء الأتراك والممالك الذين أوقفوا أموالهم على المؤسسات التعليمية.

        بل وصلت عوائد الأوقاف وفوائده إلى المساجين، إذ لم يحرموا منها، فقد خصصت بعض الوقفيات من أجل الإنفاق على تعليمهم، علاوة على الصرف عليهم وعلى عوائلهم من أموال موقوفة ومخصصة للمساجين.

        وقد ألفت في تاريخ المدارس مصادر عدة حاولت استقراء أعدادها وما يدرس فيها، ومنها:

        1 - المواعظ والاعتبار للمقريزي (ت 845 هـ ) .

        2 - الأعلاق الخطيرة لابن شداد (ت 684 هـ ) .

        3 - العقود اللؤلؤية للخرزجي (ت 812 هـ ) .

        4 - الدارس في تاريخ المدارس للنعيمي (ت 923 هـ ) .

        5 - تلخيص مجمع الآداب لابن الفوطي (ت 323 هـ ) .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية