الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المسألة الثالثة: استثناء الغلة، أو بعضها:

        وصورة ذلك: أن يقول الواقف: هذا البيت، أو الدكان وقف على طلبة العلم، ولي نصف الريع مدة حياتي، أو مدة سنة أو سنتين، ونحو ذلك.

        فللعلماء في ذلك أقوال:

        القول الأول: صحة الوقف، والشرط.

        وهو قول الحنفية، وقول عند الشافعية، وهو مذهب الحنابلة.

        القول الثاني: عدم صحة الوقف.

        وهو مذهب المالكية، والشافعية. [ ص: 412 ]

        قالوا: إن جعل الغلة كلها لنفسه من غير أن يعين من بعده فالوقف باطل بذلك.

        فإن جعل جزءا للمساكين فلا شيء له والوقف صحيح، وإن وقف على نفسه ثم على المساكين صار إلى المساكين، ويكون منقطع الابتداء.

        القول الثالث: صحة الوقف دون الشرط.

        وهو قول في مذهب الحنابلة.

        الأدلة:

        أدلة الرأي الأول:

        1 - الأدلة الدالة على اشتراط الرضا في العقود.

        وجه الدلالة: أن الواقف لم يرض بهذا الوقف إلا على هذا الوجه.

        2 - الأدلة الدالة على صحة الشرط في عقد الوقف.

        ويدخل في ذلك اشتراط الواقف لنفسه الغلة أو بعضها.

        3 - الأدلة الدالة على صحة الوقف على النفس.

        فإذا صح جعل جميع الوقف على النفس، فبعضه من باب أولى.

        (124 ) 4 - قال ابن أبي شيبة: حدثنا ابن عيينة، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: « ألم تر أن حجر المدنيين أخبرني أن في صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم: يأكله أهله بالمعروف غير المنكر». [ ص: 413 ]

        (125 ) 5 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق عامر يقول: حدثني جابر رضي الله عنه « أنه كان يسير على جمل له قد أعيا، فمر النبي صلى الله عليه وسلم، فضربه فدعا له فسار بسير ليس يسير مثله، ثم قال: بعنيه بوقية، قلت: لا، ثم قال: بعنيه بوقية، فبعته فاستثنيت حملانه إلى أهلي ».

        ففيه استثناء المنفعة في البيع، فكذا الوقف.

        6 - عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: « أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها ».

        (126 ) 7 - ما رواه الإمام أحمد من طريق حماد بن سلمة، عن سعيد بن جمهان، عن سفينة مولى أم سلمة « قال: أعتقتني أم سلمة، واشترطت علي أن أخدم النبي صلى الله عليه وسلم ما عاش ». [ ص: 414 ]

        ففيه استثناء المنفعة في العتق، فكذا الوقف.

        8 - ما جاء في حديث عمر رضي الله عنه : « لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقا غير متمول فيه ».

        فاشترط عمر لمن يلي صدقته أن يأكل منها بالمعروف، وكان الوقف في يده إلى أن مات.

        قال البخاري رحمه الله - : « وقد اشترط عمر رضي الله عنه: لا جناح على من وليه أن يأكل منها، وقد يلي الواقف وغيره ».

        (126 ) 9 - ما علقه البخاري بصيغة الجزم: « وتصدق الزبير بدوره، وقال: للمردودة من بناته أن تسكن غير مضرة ولا مضر بها، فإن استغنت بزوج فليس لها حق ». [ ص: 415 ]

        وجه الدلالة: أنه إذا أجاز شرط بعض الغلة للموقوف عليه، فشرطها للواقف من باب أولى.

        10 - أنه لو وقف وقفا عاما كالمساجد والسقايات والمقابر كان له الانتفاع به إجماعا، فكذلك إذا خص نفسه بالانتفاع بالشرط.

        أدلة القول الثاني: (عدم الصحة ) :

        1 - ما تقدم من الأدلة على عدم صحة الوقف على النفس وقد تقدمت مناقشتها.

        2 - أن الوقف تبرع على وجه التمليك، فاشتراط البعض أو الكل لنفسه يبطله ; لأن تمليك الإنسان من نفسه لا يتحقق; لأنه حاصل، وتحصيل الحاصل ممتنع.

        ونوقش هذا الاستدلال: أنه مبني على أن الوقف ملك للموقوف عليه وهذا غير مسلم، بل ملك لله تعالى كما سبق تحريره.

        3 - أن الوقف إزالة ملك فلم يجز اشتراط نفعه كالبيع، والهبة، وكما لو أعتق عبدا واشترط أن يخدمه ».

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن الصحيح أنه يجوز أن يبيع الرجل الشيء، أو يهبه، أو يعتق العبد، ويستثني بعض منافعه مدة; لما تقدم من الأدلة. [ ص: 416 ]

        4 - أن ما ينفقه الواقف على نفسه من وقفه مجهول، فلم يصح اشتراطه.

        ويناقش: بعدم التسليم بجهالة ما ينفقه الواقف على نفسه إذا كانت المدة التي اشترط الواقف الانتفاع فيه معينة.

        أما إذا كانت مدة الانتفاع هي مدة حياة الواقف فجهالة المدة غير مؤثرة; لأنها لا تدل على جهالة مدة كل بطن بالنسبة إلى من بعده.

        ولم أقف على دليل للقول الثالث.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - هو القول بصحة الوقف والشرط، وضعف أدلة القول المخالف بما ورد عليها من مناقشة; ولأن الوقف فعل خير وقربة وإحسان، فلا يمنع منه إلا لدليل.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية