الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        أدلة القول الخامس: (عدم الجواز مطلقا ) : استدل أصحاب هذا القول بما يلي:

        1 - قوله تعالى: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون .

        فالله تعالى قد عاب على العرب ما كانت تفعل من تسييب البهائم وحمايتها، وحبس أنفسها عنها.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأنه لا حجة فيه; لأن الله سبحانه عاب عليهم أن يتصرفوا بعقولهم بغير شرع توجه إليهم، أو تكليف فرض عليهم، بينما الوقف ورد به الشرع في أدلة كثيرة سبق ذكر طرف منها.

        (27 ) 2 - ما رواه الدارقطني من طريق محمد وعبد الله ابني أبي بكر وعمرو بن دينار، عن بكر بن حازم أن عبد الله بن زيد بن عبد ربه رضي الله عنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن حائطي هذا صدقة، وهو إلى الله ورسوله. فجاء أبواه فقالا: يا رسول الله، كان قوام عيشنا، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ماتا فورثهما ابنهما ». [ ص: 92 ]

        وجه الدلالة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد وقف عبد الله بن زيد رضي الله عنه، فدل على عدم مشروعيته.

        ونوقش الاستدلال بالحديث من وجوه:

        الأول: أن الحديث ضعيف.

        الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطل الوقف; لأنه تصدق بجميع ما يملك، وليس لأحد أن يضر بنفسه وبمن يعول، ويدل لهذا قولهما: « يا رسول الله، كان قوام عيشنا. ».

        الثالث: أن الحائط كان ملكا لأبويه فتصرف فيه بغير إذنهما ولم ينفذاه، بدليل أنه جاء في الحديث: « ثم ماتا، فورثهما ابنهما ».

        3 - ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: « لما نزلت سورة النساء وفرضت فيها الفرائض، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا حبس عن فرائض الله -عز وجل- ».

        (28 ) 4 - ما رواه الطحاوي من طريق زياد بن سعد، عن ابن شهاب أن عمر رضي الله عنه قال: « لولا أني ذكرت صدقتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لرددتها ». [ ص: 93 ]

        ونوقش من وجهين:

        الأول: أنه منقطع.

        الثاني: قال ابن حزم: « ونحن نبت ونقطع بأن عمر رضي الله عنه لم يندم على قبوله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما اختاره له في تحبيس أرضه، وتسبيل ثمرتها، والله تعالى يقول: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ، وليت شعري إلى أي شيء كان يصرف عمر تلك الصدقة لو ترك ما أمره به عليه الصلاة والسلام فيها؟ حاشا عمر هذا ».

        5 - ما روي عن شريح أنه قال: « جاء محمد ببيع الحبس ».

        وهذا الدليل استدل به أيضا أصحاب القول الثالث، وقد سبق مناقشة الاستدلال به.

        6 - أن شريحا - وهو قاضي عمر، وعثمان، وعلي الخلفاء الراشدين المهديين رضوان الله عليهم أجمعين - قال: « لا حبس عن فرائض الله ».

        فعن عطاء بن السائب قال: سألت شريحا عن رجل جعل داره حبسا على الآخر، فالآخر من ولده؟ فقال: « إنما أقضي ولست أفتي ».

        قال: فناشدته. فقال: « لا حبس على فرائض الله ».

        وهذا لا يسع القضاة جهله.

        ولا يسع الأئمة تقليد من يجهل مثله، ثم لا ينكر عليه منكر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا من تابعيهم رحمة الله عليهم. [ ص: 94 ]

        ونوقش هذا الاستدلال:

        أن قولهم: « إن هذا لا يسع القضاة جهله، ولا يسع الأئمة تقليد من يجهل مثله ، ناقشه ابن حزم، رحمه الله فقال: « هلا قالوا هذا في كل ما خالفوا فيه شريحا، وأي نكرة في جهل شريح سنة وألف سنة ».

        ثم ذكر أنه غاب عن كثير من الصحابة كثير من الأحكام، فغاب عن ابن مسعود نسخ التطبيق، وغاب عن أبي بكر ميراث الجدة، وغاب عن عمر أخذ الجزية من المجوس سنين، وإجلاء الكفار من جزيرة العرب إلى آخر عام من خلافته.

        قال: « ومثل هذا لو تتبع لبلغ أزيد من ألف سنة غابت عمن هو أجل من شريح، ولو لم يستقض إلا من لا تخفى عليه سنة، ولا تغيب عن ذكره ساعة من دهر حكم من أحكام القرآن ما استقضي أحد ولا قضى ولا أفتى أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن من جهل عذر، ومن علم غبط ».

        وقد عتب مالك على شريح: قال الإمام مالك: « تكلم شريح ببلاده ولم يرد المدينة، فيرى آثار الأكابر من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين بعدهم، وهلم جرا إلى اليوم، وما حبسوا من أموالهم لا يطعن فيه طاعن، وهذه صدقات النبي صلى الله عليه وسلم سبعة حوائط، وينبغي للمرء ألا يتكلم إلا فيما أحاط به خبرا ».

        وتأول ابن يونس قول شريح بأنه يورث، على معنى أنه لا يزيل الملك، كقول أبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة.

        (29 ) قال الخلال: أخبرنا عبد الملك بن عبد الحميد الميموني: أنه [ ص: 95 ] سأل أبا عبد الله: أيش معنى قول شريح جاء محمد يبيع الحبس؟ قال لي: لأنه لم يكن هذه الحبس، يعني: الوقوف، وأن ذاك كان في الجاهلية ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ثم قال أبو عبد الله: « بلغني أن مالكا قال: ما حج شريح قط، ما مر بمكة فنظر إلى الدور فسأل عنها، هذه دار لطلحة حبيس، وهذه الدار لفلان حبيس، وهذه الدار لفلان حبيس ».

        (30 ) 3 - ما روى ابن حزم عن الواقدي قال: « ما من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد أوقف وحبس أرضا، إلا عبد الرحمن بن عوف عوف رضي الله عنه فإنه كان يكره الحبس ».

        فكراهية عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه للحبس دليل على أن الحبس غير جائز.

        ونوقش:

        أن هذا الدليل أورده ابن حزم ورده بقوله: هذه رواية أخباث، فإنها زادت ما جاءت فيه ضعفا. وعلى كل حال فلو فرض صحة هذا الأثر، فإنه دليل على صحة الوقف وجوازه; وذلك لأنه يشير إلى أن جميع الصحابة رضوان الله عليهم قد وقفوا الأراضي ما عدا عبد الرحمن، وعامة الصحابة لا يتصور منهم الاتفاق على عمل لا يجوز في الشريعة.

        أما كراهية عبد الرحمن: فإنه ربما هو استنتاج من الراوي لعدم وقفه، وربما أنه فعلا كره أن يقف لا لعدم جوازه، ولكن لأمور خاصة متعلقة [ ص: 96 ] على أنه لو كان رضي الله عنه لا يرى جواز الوقف، فإنه معارض بالأحاديث الصحيحة، وبعمل عامة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

        (31 ) 8 - وقال البخاري: « وباع حسان حصته منه من معاوية، فقيل له: تبيع صدقة أبي طلحة؟ ».

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن الصحابة رضي الله عنهم أنكروا ذلك عليه.

        9 - أن الوقف تبرع بالمنفعة وهي معدومة وقت إنشائه، وتمليك المعدوم لا يصح.

        ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:

        الأول: أنه لم يرد في الشريعة المنع من تمليك المعدوم مطلقا، بل جازت هبة المعدوم، والوصية به، بل والمعاوضة عليه في بعض الصور.

        الثاني: أنه لو منع من تمليك المعدوم، فهذا في عقود المعاوضات لبنائها على المشاحة دون عقود التبرعات لبنائها على المسامحة.

        الترجيح: الراجح - والله أعلم - قول جمهور أهل العلم; لقوة أدلتهم، ومما يؤيد قول جمهور أهل العلم: أن أبا يوسف رجع بعد المناظرة التي دارت بينه وبين الإمام مالك بحضرة الرشيد، فظهر عليه مالك، وقال: « هذه أوقاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقلها أهل المدينة خلفهم عن سلفهم » قال الباجي: « وهذا فعل أهل الدين والعلم في الرجوع إلى الحق حين ظهر وتبين ».

        حتى إن محمد بن الحسن استبعد قول أبي حنيفة، وسماه تحكما على الناس من غير حجة، فقال: « ما أخذ الناس بقول أبي حنيفة وأصحابه إلا [ ص: 97 ] بتركهم التحكم على الناس، فإذا كانوا هم الذين يتحكمون على الناس بغير أثر ولا قياس لم يقلدوا هذه الأشياء. [ ص: 98 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية