الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        أدلة القول الرابع: استدل أصحاب هذا القول بما يلي:

        (25 ) 1 - ما رواه الدارقطني من طريق ابن لهيعة، عن أخيه عيسى بن [ ص: 88 ] لهيعة، عن عكرمة، عن ابن عباس، رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا حبس عن فرائض الله -عز وجل- ».

        أي: لا مال يحبس بعد موت صاحبه عن القسمة بين ورثته، والواقف حبس عن فرائض الله تعالى فكان منفيا شرعا.

        ونوقش هذا الدليل: بأنه مردود من وجوه: الوجه الأول: أن الحديث ضعيف.

        الوجه الثاني: أنه لو صح، فقد ذكر ابن حزم: أنه يلزم أن يكون منسوخا; وذلك لأن الحبس وقع من الصحابة بعده، وبعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن مات عليه السلام.

        الوجه الثالث: أن قولهم فاسد; لأنهم لا يختلفون في جواز الهبة والصدقة في الحياة والوصية بعد الموت، وكل هذه مسقطة لفرائض الورثة عما لو لم تكن فيه لورثوه على فرائض الله، عز وجل، فيجب بهذا القول إبطال كل هبة، وكل وصية; لأنها مانعة من فرائض الله تعالى بالمواريث.

        فإن قالوا: هذه شرائع جاء بها النص:

        قلنا: والحبس شريعة جاء بها النص، ولولا ذلك لم يجز. [ ص: 89 ]

        ولهذا لزم صرف المراد بالحبس إلى أحباس الجاهلية التي كانوا يحبسونها، وهي البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحامي. ولهذا قال مالك في مناظرته لأبي يوسف عند الرشيد: « والحبس الذي جاء محمد صلى الله عليه وسلم بإطلاقها التي في كتاب الله تعالى: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام .

        الوجه الرابع: على فرض صحته فهو محمول على أنه لا يحبس عن وارث شيء جعله الله تعالى له بعد نزول آية المواريث، وقد كانوا في الجاهلية يورثون الرجال المحاربين، ويمنعون الإناث، والصغار.

        الوجه الخامس: أن حق الوارث لا يتعلق بالتركة إلا بعد مرض أو موت المورث، فما صدر من المالك حال الصحة، فليس للوارث فيه شيء حتى يقال بأنه حبس عن ميراثه.

        (26 ) 2 - ما رواه البيهقي قال: أخبرنا أبو زكريا يحيى بن إبراهيم المزكي، ثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، ثنا أبو أحمد محمد بن عبد الوهاب، أنبأ جعفر بن عون أنبأ مسعر، عن أبي عون، عن شريح قال: جاء محمد صلى الله عليه وسلم بمنع الحبس ».

        قالوا: وهذا منه رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجوز بيع الموقوف; لأن الحبيس هو الموقوف فعيل بمعنى المفعول; إذ الوقف حبس لغة، فكان [ ص: 90 ] الوقف محبوسا فيجوز بيعه، وبه تبين أن الوقف لا يوجب زوال الرقبة عن ملك الواقف.

        وأما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما جاز; لأن المنع من الوقف كونه حبسا عن فرائض الله عز وجل، ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقع حبسا عن فرائض الله تعالى لقوله: « لا نورث ما تركناه صدقة ».

        ورده ابن حزم فقال: بل جازت - صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ; لأنه عليه الصلاة والسلام جعلها صدقة، هكذا قال عمرو بن الحارث: « ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا، ولا درهما، ولا عبدا إلا بغلته البيضاء، وأرضا جعلها صدقة ».

        فإن قيل: إنه -عليه السلام- لم يورث؟

        قلنا: نعم، ولكن كونه لا يورث لا يوجب: كون أرضه وقفا، بل تباع ويتصدق بالثمن، فظهر فساد اعتراضهم.

        3 - أن الوقف يجوز إذا حكم به حاكم; لأن حكمه صادف محل الاجتهاد وأفضى اجتهاده إليه، وقضاء القاضي في موضع الاجتهاد بما أفضى إليه اجتهاده جائز، كما في سائر الاجتهادات.

        4 - أن الوقف يجوز إذا أضيف إلى بعد الموت; لأنه لما أضافه إلى ما بعد الموت فقد أخرجه مخرج الوصية، فيجوز كسائر الوصايا.

        ثم قالوا: لكن جوازه بطريق الوصية لا يدل على جوازه لا بطريق الوصية. [ ص: 91 ]

        ألا ترى لو أوصى بثلث ماله للفقراء جاز، ولو تصدق بثلث ماله على الفقراء لا يجوز.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية