الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 577 ] المسألة الرابعة: وقف العين التي تفنى:

        مثل المطعومات، والمشروبات، والطيب بأنواعه ، وأشباه ذلك.

        ويدخل في ذلك كثير من مشتقات البترول في وقتنا الحاضر، كالغاز والبنزين، والديزل، ونحوها.

        وفي المسألة أمران:

        الأمر الأول: وقفه للانتفاع به في المنفعة المقصودة منه.

        الأمر الثاني: وقفه للانتفاع به في غير المنفعة المقصودة منه.

        الأمر الأول:

        مثال ذلك: وقف الطعام لأكله، كما لو وقف مئة كيس أرز على طلبة العلم، والمشروب لشربه، والطيب لشمه، والشمع والزيت للاستضاءة به...وهكذا.

        وكما لو وقف مئة صاع من البر، أو وقف مئة صاع من الزيت على طلبة العلم، ونحو ذلك من الأطعمة، أو وقف مئة لتر من البنزين.

        فللعلماء في ذلك قولان:

        القول الأول: صحة هذا الوقف.

        وهو قول عند المالكية.

        ونقله صاحب حلية العلماء والمغني عن الإمام مالك، وقال: « ولم يحكه أصحابه ». [ ص: 578 ]

        وهو ظاهر قول شيخ الإسلام، والحارثي من الحنابلة .

        واشترط من قال به من المالكية طول بقائه، كالقمح.

        قال المرداوي: « وقال الشيخ تقي الدين: لو تصدق بدهن على مسجد ليوقد فيه جاز، وهو من باب الوقف، وتسميته وقفا بمعنى أنه وقف على تلك الجهة لا ينتفع بها في غيرها لا تأباه اللغة، وهو جار في الشرع، وقال أيضا: يصح وقف الريحان ليشمه أهل المسجد، قال: طيب حكمه حكم كسوتها، فعلم أن الطيب منفعة مقصودة، لكن قد تطول مدة الطيب وقد تقصر ولا أثر لذلك، قال الحارثي: وما يبقى أثره من الطيب كالند والصندل وقطع الكافور لشم المريض وغيره فيصح وقفه على ذلك؛ لبقائه مع الانتفاع، وقد صحت إجارته لذلك، فصح وقفه ».

        القول الثاني: عدم صحة هذا الوقف.

        وهو قول جمهور أهل العلم: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.

        الأدلة:

        أدلة الرأي الأول:

        استدل لهذا الرأي بما يلي:

        1 - ما تقدم من أدلة عموم الوقف. [ ص: 579 ]

        وهذه تشمل وقف العين التي تفنى باستيفاء النفع منها .

        2 - ما تقدم قريبا من أدلة مشروعية وقف المنافع.

        وهي تفنى باستيفائها.

        3 - أدلة مشروعية وقف المنقول، والحيوان.

        والحيوان وكثير من المنقولات لا تدوم طويلا.

        4 - ما ورد عن عثمان أنه وقف بئر رومة.

        والماء يفنى باستهلاكه.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن المراد الوقف على مجموع الحفرة والماء، لا الماء وحده، ثم إنه لا أثر لذهاب الماء بالاستعمال؛ لأن ماء البئر يتجدد، وبدله يقوم مقامه.

        وأجيب: بأن الماء هو الأصل والحفرة تبع، وأما تجدد الماء فغير دائم.

        (170) 5 - روى أبو داود من طريق سعيد أن سعدا رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي الصدقة أعجب إليك؟ قال: « الماء ». [ ص: 580 ]

        (171) - وروى أبو داود من طريق أبي إسحاق، عن رجل، عن سعد بن عبادة أنه قال: يا رسول الله، إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل؟ قال: « الماء»، قال : فحفر بئرا، وقال: هذه لأم سعد.

        3 - وعن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « أيما مسلم كسا مسلما ثوبا على عري كساه الله من خضر الجنة، وأيما مسلم أطعم مسلما على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى مسلما على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم ».

        دليل القول الثاني:

        استدل لهذا القول: بأن الوقف تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة، وما لا ينتفع به إلا بالإتلاف لا يصح ذلك فيه.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - القول بصحة وقف ما يفنى باستيفاء المنفعة منه ؛ إذ الوقف فعل خير وقربة، والأصل أن يكثر منه. [ ص: 581 ]

        الأمر الثاني:

        وقف العين التي لا يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها للانتفاع بها في غير المنفعة المقصودة منه.

        الوقف هنا لا يخلو من إحدى حالتين: إما أن يكون مع بقاء العين والمنفعة غير معتبرة شرعا، وإما ألا يكون كذلك.

        فإن كان مع بقاء العين والمنفعة غير معتبر شرعا كوقف الطعام والشمع للزينة ونحوها، فالظاهر: أنه لا أحد يقول بجوازه، وقد صرح بذلك المالكية؛ وذلك لعدم المنفعة الشرعية التي تترتب على ذلك.

        وإن كان مع عدم بقاء العين والمنفعة مقصودا شرعا كوقف الحنطة ونحوها للإقراض للفقراء الذين لا بذر لهم ليزرعوه لأنفسهم، ثم يؤخذ منهم بعد الإدراك قدر القرض ثم يقرض لغيرهم من الفقراء... وهكذا فقد اختلف الفقهاء في ذلك على أربعة أقوال:

        القول الأول: جواز هذا الوقف.

        وهذا هو المشهور عن الإمام مالك وأصحابه، والظاهر من الوجه الثاني عند الشافعية، وقول عند الحنابلة، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: بجواز وقف الدراهم والدنانير لقرضها ودفعها مضاربة، كما سيأتي. [ ص: 582 ]

        وقال بعض المالكية: يكره هذا الوقف.

        القول الثاني: عدم الجواز.

        وهذا قول أبي حنيفة وتلميذه أبي يوسف، حيث قالا بعدم جواز وقف المنقول ما عدا الكراع والسلاح على قول أبي يوسف، وبه قال بعض المالكية، لكن ضعفه بعضهم، وهو المذهب عند الشافعية والحنابلة حيث قالوا: بعدم جواز وقف الدراهم والدنانير لإقراضها ودفعها مضاربة كما سيأتي.

        القول الثالث: يجوز هذا إذا كان متعارفا عليه.

        وبه قال محمد بن الحسن من الحنفية، والعمل والفتوى عليه عندهم.

        الأدلة:

        أدلة أصحاب القول الأول: (الجواز) :

        1 - ما تقدم من الأدلة الدالة على مشروعية الوقف.

        2 - ما تقدم من الأدلة الدالة على مشروعية وقف ما يفنى باستهلاكه.

        3 - أن الوقف تحبيس للأصل وتسبيل للمنفعة حاصل هنا، وأما تحبيس [ ص: 583 ] الأصل فإنه وإن لم يتحقق بذاته فإنه يتحقق بالبدل، فينزل رد البدل منزلة بقاء العين لمصلحة الوقف، كما هو الحال في وقف الدراهم والدنانير.

        دليل القول الثاني: ما استدل به لهذا القول في وقف النقول.

        وتأتي مناقشته.

        أدلة أصحاب القول الثالث: ما استدل به لهذا القول في وقف النقول.

        وتأتي مناقشته.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - القول الأول؛ لما في ذلك من مصلحة الواقف والوقف، وتوسيع مجال بذل النفع للناس والتوسعة عليهم، ولما سبق أن الوقف فعل خير، فالأصل أنه يكثر منه، ويحث عليه.

        * * *

        التالي السابق


        الخدمات العلمية