الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المطلب السادس: الشرط السادس: أن يكون الوقف معلوما مقدورا على تسليمه

        وفيه مسألتان:

        المسألة الأولى: أن يكون الوقف معلوما:

        (وقف المجهول)

        يشترط جمهور العلماء من الحنفية، والشافعية، والحنابلة: أن يكون الوقف معلوما.

        فلو وقف مالا مجهولا لم يصح الوقف؛ لأن الوقف لا يتم نقل ملكه من الواقف إلا بالعلم به، أما إذا لم يتم العلم به فلا يمكن ذلك.

        ويتم العلم بالعين الموقوفة بأحد أشياء:

        إما بالتسمية: كقوله: مزرعتي بيرحاء وقف.

        وإما بالتعيين: بالإشارة إلى الموقوف إذا كان حاضرا، وأمكن الإشارة إليه، كقوله: هذه الدار موقوفة على كذا. [ ص: 534 ]

        وإما بالوصف: كقوله: وقفت أرضي ذات الموقع كذا، والمساحة كذا...إلخ من الأوصاف التي تحدد العين الموصوفة.

        فإذا وقف شخص لآخر شيئا مبهما، كأن يقف سيارة من سياراته، ولم يبينها، فاختلف العلماء في حكم هذا الوقف على قولين:

        القول الأول: صحة وقف المبهم.

        وهو مذهب المالكية، ووجه عند الشافعية، واحتمال عند الحنابلة، واختاره شيخ الإسلام.

        قال الحارثي من الحنابلة: « ويخرج المبهم بالقرعة ».

        قال القرافي: « وقد فصل مالك بين قاعدة ما يجتنب فيه الغرر والجهالة وقاعدة ما لا يجتنب فيه الغرر والجهالة، وانقسمت التصرفات عنده ثلاثة أقسام: طرفان وواسطة، فالطرفان أحدهما: معاوضة صرفة، فيجتنب فيها ذلك إلا ما دعت الضرورة إليه عادة، وثانيهما: ما هو إحسان صرف لا يقصد به تنمية المال كالصدقة والهبة، فإن هذه التصرفات إن فاتت على من أحسن إليه بها لا ضرر عليه ؛ لأنه لم يبذل شيئا بخلاف القسم الأول إذا فات بالغرر والجهالة ضاع المال المبذول في مقابلته، فاقتضت حكمة الشرع منع الجهالة فيه، أما الإحسان الصرف فلا ضرر فيه، فاقتضت حكمة الشرع وحثه على الإحسان التوسعة فيه بكل طريق بالمعلوم والمجهول، فإن ذلك أيسر لكثرة وقوعه قطعا، وفي المنع من ذلك وسيلة إلى تقليله، فإذا وهب له بعيره الشارد [ ص: 535 ] جاز أن يجده، فيحصل له ما ينتفع به، ولا ضرر عليه إن لم يجده؛ لأنه لم يبذل شيئا ».

        القول الثاني: عدم صحة وقف المبهم.

        وهذا مذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية.

        الأدلة:

        أدلة القول الأول: (صحة وقف المبهم) :

        1 - قوله تعالى: ما على المحسنين من سبيل ، والواقف محسن.

        2 - عمومات أدلة الوقف، وهذه تشمل المبهم.

        (162) 3 - قال البخاري : لقول النبي صلى الله عليه وسلم لوفد هوازن حين سألوه المغانم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « نصيبي لكم ».

        (163) وروى البخاري من طريق عروة، أن المسور بن مخرمة ومروان أخبراه أن النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه وفد هوازن قام في الناس فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال : « أما بعد، فإن إخوانكم جاؤوا تائبين، وإني رأيت أن أرد عليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا »، فقال الناس: طيبنا لك. [ ص: 536 ]

        وجه الاستدلال: أن نصيب الرسول صلى الله عليه وسلم خفي لا يعلم النبي صلى الله عليه وسلم قدره حين وهبه، والوقف يلحق بالهبة بجامع التبرع.

        4 - أن هذا النوع من الوقف تبرع، فصح في المجهول كالنذر والوصية.

        5 - أن التبرعات ليست كالمعاوضات فلا تضر الجهالة؛ لأن الموقوف عليه متبرع له تبرعا محضا؛ فالغنم له حاصل على كل وجه، سواء علم مقدار الوقف أم لم يعلم.

        6 - القياس على العتق، فلو أعتق أحد عبديه صح، فكذا لو وقف أحد داريه.

        ونوقش: بأنه قياس مع الفارق؛ إذ صحت الجهالة في العتق لنفوذه وسرايته وقبوله التعليق.

        وأجيب: بأن الوقف له نفوذ؛ ولهذا لا يجوز الرجوع فيه، ولا يشرع فيه خيار المجلس، ويقبل التعليق .

        7 - القياس على الهبة، فتصح الجهالة فيها، فكذا الوقف بجامع التبرع.

        ونوقش من وجهين:

        الوجه الأول: بأنه قياس مع الفارق؛ إذ الهبة تمليك مطلق يملك [ ص: 537 ] الموهوب له التصرف في الهبة بالبيع وغيره، والوقف تحبيس للأصل وتسبيل للمنفعة لا يملك الموقوف عليه التصرف في الوقف ببيع وغيره.

        وأجيب: بأن هذا الفرق غير مؤثر في عدم الإلحاق؛ إذ المؤثر وجود الغرر، وهو منتف من كل منهما؛ إذ يتسامح في عقود التبرعات ما لا يتسامح في غيرها من عقود المعاوضات؛ لبنائها على الإرفاق والإحسان.

        الوجه الثاني: أن المقيس عليه موضع خلاف بين أهل العلم.

        دليل القول الثاني: (عدم صحة وقف المبهم)

        1 - قياس الوقف على البيع فما صح بيعه صح وقفه، وما لا يصح بيعه لا يصح وقفه.

        ونوقش: بأنه قياس مع الفارق؛ إذ الوقف تبرع، والبيع معاوضة، ويطلب في عقود المعاوضات ما لا يطلب في عقود التبرعات من التحرير والضبط والعلم؛ إذ يقصد بها الربح والتجارة، بخلاف عقود التبرعات فيقصد بها الإرفاق والإحسان.

        2 - أن الله تعالى حرم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أموال الناس إلا بطيب أنفسهم، ولا تطيب ببذل الشيء، إلا إذا علم صفاته وقدره وما يساوي.

        ونوقش: بعدم التسليم بأن النفس لا تطيب بما لا يعلم قدره وصفاته، بل وقف المجهول مع طيب النفس واقع.

        3 - أن الوقف تمليك للعين أو للمنفعة، فلم يصح في غير معين كالإجارة.

        ونوقش بما نوقش به الدليل الأول . [ ص: 538 ]

        4 - أن الوقف نقل للملك على وجه القربة، فلم يصح في غير معين كالهبة.

        ونوقش: بعدم التسليم، فالجهالة في الهبة مغتفرة كما تقرر في أدلة الرأي الأول.

        5 - أن الجهالة تمنع من تسليم الموقوف، ولا يمكن الانتفاع به دون تسليمه، فلا يصح وقفه.

        ونوقش: بعدم التسليم؛ إذ يصار إلى تعيين الواقف، أو القرعة.

        الترجيح:

        يظهر - والله أعلم - أن القول بصحة وقف المبهم أرجح من القول بعدم الصحة؛ إذ الوقف من عقود التبرعات التي لا يشترط لها ما يشترط لغيرها من العقود، ولأنه عقد قربة فالأصل تكثيره والحث عليه.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية