الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المطلب الخامس: الشرط الخامس: شرط الاختيار

        وفيه مسائل:

        المسألة الأولى: وقف المكره.

        يشترط لصحة الوقف الاختيار والرضا ظاهرا وباطنا، وعلى هذا لو وقف حياء لم يصح وقفه; لما يأتي من الأدلة، فإن أكره على الوقف بإتلاف نفس، أو طرف، أو منفعة، أو ضرب، أو أخذ مال يشق عليه.

        فاختلف العلماء في حكم وقف المكره على ثلاثة أقوال:

        القول الأول: بطلان وقف المكره.

        وهو قول المالكية، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة، والظاهرية.

        في الشرح الصغير للدردير: «فأركانه أربعة: الأول: واقف إن كان أهلا للتبرع، وهو البالغ الحر الرشيد المختار، فلا يصح من صبي ولا مجنون ولا عبد، ولا سفيه، ولا مكره». [ ص: 372 ]

        ونص الشافعية: على أنه إذا كان الإكراه بحق صح الوقف، كما لو نذر أن يقف شيئا من ماله ثم امتنع، فللحاكم أن يجبره.

        القول الثاني: أن وقف المكره فاسد، أي: أن العقد انعقد صورة، ولكنه فاسد; لعدم الرضا، ويمكن أن يصح العقد إذا أجازه المكره ورضي به، ولكل من المكره والمكره حق الفسخ.

        وبه قال الحنفية.

        قال الكاساني: « والإنشاء نوعان: نوع لا يحتمل الفسخ...كالطلاق، والعتاق، والرجعة، والنكاح...فهذه التصرفات جائزة مع الإكراه، وأما النوع الذي يحتمل الفسخ فالبيع والشراء، والهبة، والإجارة ونحوها، فالإكراه يوجب فساد هذه التصرفات عند أصحابنا الثلاثة، وعند زفر: يوجب توقفها على الإجارة كبيع الفضولي، وعند الشافعي: يوجب بطلانها أصلا ».

        القول الثالث: أن عقد المكره صحيح غير لازم بالنسبة للمكره إن أجازه نفذ، وإلا فلا.

        وبه قال زفر، وهو احتمال لصاحب الفائق من الحنابلة.

        الأدلة:

        أدلة القول الأول: (البطلان ) :

        استدل القائلون ببطلان وقف المكره بالأدلة الآتية:

        1 - قول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم [ ص: 373 ] وجه الاستدلال: أن الآية دلت على أن البيع إذا لم يكن عن تراض، فالباطل لا يحل أكل المال به، ومثله الوقف.

        2 - قول الله تعالى : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان قال الإمام الشافعي رحمه الله: « وللكفر أحكام، كفراق الزوجة، وأن يقتل الكافر ويغنم ماله، فلما وضع الله عنه سقطت عنه أحكام الإكراه على القول كله; لأن الأعظم إذا سقط عن الناس سقط ما هو أصغر منه، وما يكون حكمه بثبوته عليه ».

        3 - قول الله تعالى : ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ويوجه الاستدلال من الآية بأمرين:

        أحدهما: أن الآية نهت عن الإكراه فيما لا يحل - وهو الزنى - ، فيكون النهي عن الإكراه فيما يحل - كالوقف - من باب أولى.

        الأمر الثاني: في الآية دلالة على رفع الإثم عن المكرهة على الزنى، فيلزم حينئذ عدم ترتب الحد عليها، وإذا كان الإكراه يؤثر في الزنى فلأن يؤثر في الوقف ونحوها من باب أولى.

        4 - قول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها [ ص: 374 ] وجه الاستدلال من هذه الآية:

        (105) بما روى البخاري من طريق عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب نزول هذه الآية قال: « كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها فهم أحق بها من أهلها ».

        فإذا كان النكاح كرها لا يحل كما صرحت بذلك الآية، فمعنى ذلك بطلان العقد، وذلك استنادا إلى القاعدة الأصولية: « أن النهي يقتضي الفساد ».

        5 - أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إجبار المرأة على النكاح بكرا كانت أو ثيبا، وألزم وليها أن يستأذنها، فإن زوجها مكرها فنكاحها مردود، فمن هذه الأحاديث:

        (106 ) 1 - ما رواه البخاري من طريق يزيد بن جارية، عن خنساء بنت خدام الأنصارية « أن أباها زوجها وهي ثيب، فكرهت ذلك، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها ».

        (107 ) ب - ما رواه البخاري ومسلم من طريق أبي سلمة، عن أبي [ ص: 375 ] هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا البكر حتى تستأذن » قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: «أن تسكت».

        (108) 6 - ما رواه ابن ماجه من طريق الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، عن عطاء، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ».

        [أنكره أحمد، وأبو حاتم] [ ص: 376 ] [ ص: 377 ]

        وجه الاستدلال من الحديث: الحديث يقتضي أن يكون حكم كل ما استكره عليه مرفوعا; لأنه لما استحال رفع الخطأ نفسه - ومثله النسيان والإكراه - وجب أن يضمر في الجملة ما يصح أن يتعلق به الرفع، وتقدير « الحكم » أولى; لأنه يفيد العموم.

        ونوقش وجه الاستدلال من الحديث بأمرين:

        أحدهما: أن الاستكراه لم يرفع; لأنه قد يوجد، فيكون المقصود رفع الأثم.

        وأجيب عنه: بأن المراد به حكم الاستكراه، لا الاستكراه، كما أن المراد برفع الخطأ رفع حكمه لا رفع الخطأ عينه. [ ص: 378 ]

        الأمر الثاني: أن المراد بالإكراه في الحديث الإكراه على الكفر; لأن القوم كانوا حديثي العهد بالإسلام، وكان الإكراه على الكفر ظاهرا يومئذ، وكان يجري على ألسنتهم كلمات الكفر خطأ وسهوا، فعفا الله جل جلاله عن ذلك على لسان رسوله.

        ويجاب عن هذا: بأنه على فرض التسليم به، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

        فقوله صلى الله عليه وسلم: «وما استكرهوا عليه » لفظ عام يشمل كل نوع من أنواع الإكراه، سواء أكان إكراها على كفر أو عقد نكاح وطلاق، والقول بأنه خاص بالإكراه على الكفر تخصيص لا دليل عليه.

        الأمر الثالث: عدم التسليم بأن الهبة والعتاق والوقف وكل تصرف قولي مستكره عليه يقع; لأن الإكراه لا يعمل على الأقوال كما لا يعمل على الاعتقادات; لأن أحدا لا يقدر على استعمال لسان غيره بالكلام على تغيير ما يعتقده بقلبه جبرا، فكان كل متكلم مختارا فيما يتكلم به، فلا يكون مستكرها عليه حقيقة، فلا يتناوله الحديث.

        ويجاب عن هذا: بعدم التسليم به; فالإكراه يشمل التصرفات القولية والفعلية، بدليل أن الإكراه بالتهديد بالقتل أو إتلاف عضو إن كان يؤدي بالمكره إلى فعل ما لا يرضاه، فإنه أيضا يؤدي به إلى قول ما لا يرضاه.

        ويجاب عن هذه المناقشة: بما سبق ذكره من الفرق بين طلاق الهازل وطلاق المكره. [ ص: 379 ]

        7 - حديث ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه ».

        دل الحديث على أنه لا بد لحل مال المسلم من الرضا، وهذا منتف مع الإكراه فلا يصح العقد.

        8 - حديث عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ».

        وقد وجه ابن حزم الاستدلال من هذا الحديث قائلا: « فصح أن كل عمل بلا نية فهو باطل لا يعتد به ».

        وعقد المكره عمل بلا نية فهو باطل; لأن المكره إنما هو حاك لما أمر أن يقوله فقط.

        9 - قياس بطلان عقود المكره على إسقاط حكم الكفر على من تلفظ به مكرها بجامع أنها من التصرفات القولية.

        جاء في المهذب في معرض الاستدلال لبطلان عقد المكره على البيع ما نصه: « ولأنه قول أكره عليه بغير حق فلم يصح ككلمة الكفر إذا أكره عليها المسلم ».

        10 - أن القصد إلى ما وضع له الشيء شرط لجوازه، ولهذا لا يصح تصرف الصبي والمجنون، وهذا الشرط يفوت بالإكراه; لأن المكره لا يقصد بالتصرف ما وضع له، وإنما يقصد دفع مضرة الإكراه عن نفسه . [ ص: 380 ]

        ونوقش: بأن هذا باطل بطلاق الهازل، ثم إن كان شرط فهو موجود ههنا; لأنه قاصد دفع الهلاك عن نفسه، ولا يندفع عنه إلا بالقصد إلى ما وضع له فكان قاصدا إليه ضرورة.

        دليل القول الثاني: (فساد العقد) :

        استدل القائلون بفساد هبة المكره: أن ركن العقد - وهو الإيجاب والقبول - قائم لا خلل فيه; لأنه صدر من أهله مضافا إلى محله، وإنما كان فاسدا لفقدان شرطه - وهو الرضا - وفوات الشرط إنما يؤثر في فساد العقد لا بطلانه.

        بيان ذلك: أن الرضا أمر يتعلق بالعاقد المكره، فإذا وجد الرضا بعد زوال الإكراه فحينئذ يزول سبب النهي، ويصير العقد صحيحا.

        ويناقش هذا الدليل من ثلاثة أوجه:

        الوجه الأول: عدم التسليم بأن الرضا شرط الصحة، بل هو ركن كالإيجاب والقبول، وما دام أنه ركن فيبطل العقد عند فقده.

        الوجه الثاني: عدم التسليم بأن الإيجاب والقبول قائم في عقد المكره بدون خلل، فالإكراه خلل يؤثر في الإيجاب والقبول.

        الوجه الثالث: أن العقد مع الإكراه لو كان فاسدا ما ارتفع الفساد بالإجازة; لأن الفاسد لا تجعله الإجازة صحيحا.

        وأجاب الكاساني عنه بقوله: «البياعات الفاسدة لا تلحقها الإجازة; لأن فسادها لحق الشرع من حرمة الربا ونحو ذلك، فلا يزول برضا العبد، [ ص: 381 ] أي: في عقد المكره الفساد لحق العبد، وهو عدم رضاه، فيزول بإجازته ورضاه ».

        دليل القول الثالث: (صحيح غير لازم ) :

        استدل القائلون بوقف عقد المكره: بالقياس على عقد الفضولي، بجامع أنهما عقدان تلحقهما الإجازة، وعقد الفضولي موقوف على إجازة المالك، فيكون عقد المكره موقوفا على رضا المكره وإجازته.

        ويناقش هذا الدليل: بأنه قياس مع الفارق; لأن رضا المالك في عقد الفضولي مجهول، فيحتمل أن يرضى بالعقد بعد علمه به، ويحتمل أن لا يرضى، لذا كان العقد موقوفا على رضاه بعد علمه.

        أما في عقد المكره فعدم الرضا متحقق لا شك فيه، وإلا سمي العقد بعقد المكره.

        الترجيح:

        ترجح لي القول ببطلان وقف المكره; وذلك لقوة أدلة هذا القول، وضعف أدلة الأقوال الأخرى; حيث لم تسلم من المناقشة.

        لكن تتوجه صحة وقف المكره بالإجازة إذا زال الإكراه; لما سبق من صحة وقف الفضولي بالإجازة.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية