الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المبحث الثاني: أحوال الوقف الذري في الواقع المعاصر

        لقد كان الوقف على الذرية قربة لله تعالى، يبتغي الواقف منه مرضاة الله تعالى، ثم الإحسان والبر بذريته، فكان الواقفون بعيدين عن مواطن الشبه والإثم، لم يدر بفكر أحدهم مخالفة أحكام الشرع، أو جعله حيلة لتحقيق أغراضه، ومضوا على ذلك فترة من الزمن، إلا أن بعض الناس كان متخوفا من أن يكون الوقف طريقة لقطع المواريث، وقد ظهر ذلك جليا في العهدين الأموي والعباسي، حيث اتسعت الوقوف ورغب الناس في الأحباس، ولم يعد الوقف قاصرا على جهة دون غيرها كالمساجد والمساكين، بل تعدى ذلك إلى الإيقاف على المدارس والملاجئ والمكتبات ونحو ذلك كما تقدم، ولكثرة الوقوف وانحراف بعض الواقفين في شروطها فقد افتقر الوقف الذري - الذي أصابه كثير من الانحراف - للمتابعة والاهتمام، فهذا عمر بن عبد العزيز، رحمه الله، أراد أن يرد الأوقاف التي أخرج منها البنات ومات ولم يفعل ذلك.

        وفي عهد الفاطميين كان الظاهر بيبرس - أحد سلاطين مصر - قد فكر في امتلاك الدولة للأراضي، بعد أن وضع عليها ضرائب كثيرة في مصر والشام بسبب حروبه مع التتار، فسلك في ذلك مسلكا خفيا لا يدل في ظاهره على [ ص: 187 ] فكرة الاستيلاء، فإنه أراد مطالبة ذوي العقارات بمستندات تشهد لهم بالملك وإلا انتزعها من أيديهم، فكان يصادر كل ما لم يملك صاحبه عليه مستندا، وقد تصدى العلماء وفي مقدمتهم النووي، رحمه الله، للظاهر بيبرس، وأعلموه بأن ذلك غاية الجهل والفساد، وأنه لا يحل ذلك عند أحد من علماء المسلمين، بل من في يده شيء فهو ملكه لا يحل لأحد الاعتراض عليه ، ولا يكلف بإثباته ببينة ، ولا زال النووي رحمه الله يشنع على السلطان، ويعظه إلى أن كف عن ذلك.

        وفي القرن الثامن فكر السلطان برقوق أتابك - أحد سلاطين مصر في زمن العباسيين المتوفي سنة 801 هـ في إبطال الأوقاف الأهلية، وعقد لذلك مجلسا من العلماء في عام 380 هـ فيهم الشيخ سراج الدين عمر بن رسلان البلقيني; لاستفتائهم في ذلك، فقال البلقيني: « ما وقف على العلماء والطلبة لا سبيل إلى نقضه; لأن لهم في الخمس أكثر من ذلك، وما وقف على خديجة وعائشة ينقض، ووافقه في ذلك الحاضرون ».

        وفي عهد محمد علي باشا اتسع نطاق الوقف الذري اتساعا كبيرا، وأخذه كثير من الناس ذريعة لحرمان بعض الورثة وخاصة الزوجات والبنات، كما اتخذه بعضهم ذريعة للمماطلة بالدين في حياته وطريقة للتخلص منه بعد وفاته، فوجه محمد علي باشا سؤالا عام 1262هـ إلى مفتي الإسكندرية آنذاك الشيخ محمد بن محمود الجزايرلي يستفتيه في حكم صدور أمر أميري بمنع إيقاف الأماكن المملوكة لأهلها; سدا لذريعة ما غاب عن العامة من التوصل به لأغراض فاسدة، ومن حرمان بعض الورثة، والمماطلة بالديون في [ ص: 188 ] الحياة وتعريضها للتلف بعد الممات، فأجابه الشيخ محمد الجزايرلي بجواب طويل عرض فيه لآراء الفقهاء في المذهب الحنفي في حكم الوقف، وأن منهم من قال بعدم صحة الوقف، إلى أن قال : « فإذا ورد أمر من ولي الأمر يمنع العامة من إيقاف أملاكهم وتحبيسها فيما يستقبل من الزمان سدا لذريعة أغراضهم الفاسدة - كما ذكر - جاز ذلك ; لأنه مما تقتضيه السياسة الشرعية ».

        واعتمادا على هذه الفتوى أصدر محمد علي أمرا بمنع الأوقاف الأهلية منعا باتا.

        وكان ذلك ذريعة لمحمد علي لانتزاع الأوقاف الخيرية العامة، كالأوقاف على المساجد وجهات البر، ومصادرتها، وجعلها كلها ملكا للدولة، وقد أصدر مفتي مصر الشيخ محمد المهدي العباسي - الذي جاء عقب الشيخ الجزايرلي – فتوى منع فيها حل الوقف بنوعيه الخيري والذري، وهو بهذه الفتوى ينقض فتوى الجزايرلي التي منعت من الوقف الذري، وأفتي بلزوم الوقف على أولاد الناس وعيالهم وعتقائهم.

        وتطور الوضع في العصر الحاضر في كثير من البلدان العربية والإسلامية، حتى كان موضوع الوقف الذري مجال نقاش وجدل كبيرين بين مؤيد ومعترض، لكن الأصوات المنادية بإلغاء الوقف الذري قد علت حتى صدرت قوانين تقرر إلغاء الوقف الذري وتمنع منه في المستقبل، وحلت الأوقاف الذرية القائمة ووزعت على المستحقين، كما صدرت قوانين أخرى في بعض البلدان لتنظيم الوقف الذري، ووضعت له ضوابط لا يخرج عنها.

        وأول إلغاء للوقف الذري كان في تركيا سنة 1926م، ثم في سوريا في [ ص: 189 ] سنة 1949م، ثم في مصر سنة 1952م، ثم في العراق سنة 1954م، ثم في تونس سنة 1953م.

        أما في ليبيا ففي منتصف عام 1932م نظم الوقف الذري والوقف الخيري، واختص الوقف الذري بأحكام من أهمها: أنه إذا أوقف الوقف الذري فلا يكون على أكثر من طبقتين، ولا يدخل الواقف في حساب الطبقات (المادة الرابعة ) ، واعتبر الوقف الذري الذي ينشأ بعد هذا القانون باطلا إذا كان على البنين دون البنات أو بالعكس (المادة العاشرة ) ، كما أجاز الوقف على النفس بشرط أن يئول في النهاية إلى جهة بر (المادة السابعة ) ، إلى غير ذلك من الأحكام التي قررها ذلك القانون، لكنها لم تدم سوى ستة أشهر، بعدها صدر قانون في عام 1933م بإلغاء الوقف على غير الخيرات (أي: بمنع الوقف الأهلي الذري ) فحلت جميع الأوقاف الذرية في ليبيا وآلت إلى المستحقين وقت صدور القانون، وبالتالي لم يعد يسمح بإنشاء أوقاف من هذا النوع من الأوقاف.

        أما بعض البلدان العربية كلبنان والمغرب فاتجهت إلى تنظيم الوقف الذري بدلا من إلغائه، ففي لبنان صدر قانون الوقف الذري في سنة 1943م، وأدخل في هذا القانون ضوابط على الوقف الذري من أهمها: عدم تأبيد الوقف الذري، ولا يجوز في أكثر من طبقتين (المادة الثامنة ) ، كما يجوز للواقف الرجوع في وقفه الذري كله أو بعضه، وله أن يغير مصارفه وشروطه (المادة السابعة ) ، وعد الوقف باطلا إذا لم يصدر عن قاض شرعي ولم يسجل في السجل العقاري (المادة السادسة ) ، وترك للواقف حرية التصرف [ ص: 190 ] في ثلث ماله بوقفه على ورثته وغيرهم أو على جهة بر (المادة السابعة والثلاثون ) ، وأخذ بجواز قسمة الوقف الذري قسمة لازمة متى طلبت ولم يكن فيه ضرر (المادة السابعة عشر ) ، وقرر انتهاء الوقف إذا تخرب ولم تمكن عمارته أو ضعفت أنصبة المستحقين فيه (المادتان الثانية والثلاثون والثالثة والثلاثون ) ، كما قرر بعض الشروط في أرباب الاستحقاق التي تمنع الواقف من التعسف في حق الموقوف عليهم (المادة الثامنة والثلاثون) ، وقرر تخصيص نسبة قدرها 15% عند انتهاء الوقف الذري وقسمتها قسمة لازمة لقاء جهة البر المشروطة في الوقف التي لولاها لما صح الوقف لتصرف في وجوه البر العامة (المادة السادسة والعشرون ) .

        وفي المغرب نظم الوقف (الحبس ) بنوعيه الذري والمشترك، وذلك في عام 1933م، وأجاز القانون الحبس الذري على الأولاد جميعهم أو بعضهم، وأعطى القانون الحق للواقف في تحديد درجة المستحقين ومرجع الحبس (الفصل الأول ) ، كما أجاز القانون للمحبس التراجع في حبسه الذري، أما المشترك فيتراجع في الذري منه دون الخيري (الفصل الثاني ) ، وقرر القانون إمكانية تصفية الحبس المعقب أو المشترك بمبادرة من السلطة المكلفة بشئون الأوقاف إذا تبين لها أن المصلحة العامة أو مصلحة المستحقين توجب ذلك (الفصل الثالث ) ، وقرر القانون تصفية نسبة الثلث من كل حبس معقب أو مشترك لإدارة الأوقاف العامة إلا في حالة ما إذا كان الحبس دارا لا يملكون غيرها أو أرضا لا تتجاوز مساحتها عشرة هكتارات (الفصل الخامس ) ، وقرر القانون تقسيم الثلثين من الوقف المصفى على ذرية المحبس الباقين على قيد [ ص: 191 ] الحياة، سواء كانوا مستفيدين وحدهم أو مع غيرهم، ويكون التقسيم بحسب الفريضة الشرعية، وإذا انقرضوا فإن الثلثين يقسمان على المستحقين بحسب حصصهم في رسم الحبس (الفصل السادس ) .

        وفي المملكة العربية السعودية التي تطبق الشريعة الإسلامية في محاكمها الشرعية، فإن الدولة تأخذ بأحكام الوقف بجميع أنواعه الخيري والذري والمشترك، وقد وضعت لذلك ضوابط شرعية من أهمها عدم تسجيل وقفيات فيها نوع من الحرمان، كحرمان أولاد البطون أو حرمان الإناث ونحو ذلك مما يسمى بوقف الجنف والإثم; وذلك لما فيه من مصادمة الشريعة الإسلامية، وجرى في المحاكم الشرعية في المملكة العربية السعودية إبطال هذا النوع من الوقف، أما بقية أحكام الوقف الذري فإنها محترمة ومجازة في المحاكم الشرعية في بلاد الحرمين الشريفين ، رعاها الله وحرسها إلى يوم الدين.

        على النحو الذي أوضحته يتبين أن الوقف الذري في بعض البلدان قد أبطل ومنع منه ، وفي بعضها قد نظم وقنن، وفي بعضها الآخر قد أبقي على حاله كما شرع - وذلك في بلاد الحرمين حرسها الله - مع ضبط إثباته بضوابط المشرع وعدم إثبات الأوقاف الذرية المشتملة على ظلم وجور وشطط وجنف وإثم، والسبب الذي جعل بعض البلدان تبطله وتمنع منه يعود إلى فشو ذلك النوع من الوقف، ونظرة الحكام إلى المآخذ الكثيرة التي نتجت عن الأوقاف الذرية في نظرهم، أما الذين قيدوه ونموه فقد أرادوا بذلك معالجة بعض المآخذ عليه وتقنينه بحسب المصالح الاقتصادية والاجتماعية في بلدانهم. [ ص: 192 ]

        والمتأمل في ذلك يجد أن الذي يجب تقديمه هو شرع الله، فبما أن الوقف الذري مشروع في الإسلام، وأن فيه من الفوائد الشرعية والاقتصادية والاجتماعية الكثير والكثير، وإن وجد فيه مآخذ فإنه يمكن عدم الوقوع فيها بالاستعانة بالله، واتباع شرعه، والبعد عن الهوى، والنوايا السيئة والتصرفات الباطلة شرعا التي قد تلحق الظلم بالذرية أو الورثة ونحوهم.

        فعندما يتعاون الواقفون مع القضاة في سبيل جعل أوقافهم متوافقة مع الأحكام الشرعية بعيدة عن الجور والحيف، ووجه الحكام والفقهاء والعلماء الراغبين في الإيقاف على الذرية إلى ما يجوز لهم في ذلك الوقف، وحذروهم مما لا يجوز لهم الوقوع فيه، فإن الأوقاف الذرية تؤتي ثمارها يانعة، وتحقق الأهداف المرجوة منها.

        وإنني أدعو مخلصا البلدان التي منعت الوقف الذري أو أبطلته أن تعيد النظر في ذلك وفق شرع الله، أما البلدان التي قيدته: فإن كان تقييدهم بقيود الشرع والمصالح الشرعية فلا ضير حينئذ، وإن كان التقييد للأهواء أو لمجاراة القوانين الوضعية، فإن عليهم أن يعيدوا النظر، ويصححوا تلك القيود لتتوافق مع أحكام الشريعة الغراء الصالحة لكل زمان ومكان، وأن يسيروا على منهج بلاد الحرمين الشريفين - حفظها الله - في تطبيقها لشرع الله في جميع الأحكام في حياة الناس عامة، وفي أحكام الأوقاف الذرية خاصة، وإنا لمنتظرون، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

        وممن ذهب إلى إلغاء الوقف الأهلي لهم شبه نوجزها في المآخذ الأتية: [ ص: 193 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية