الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المبحث الثالث: قسما الصيغة

        للوقف صيغتان:

        الأولى: الصيغة القولية.

        الثانية: الصيغة الفعلية.

        وفيه مطالب:

        المطلب الأول: الصيغة القولية

        وهي أن يأتي الواقف بلفظ دال على معنى وقف العين، والتصدق بمنفعتها، وهي الإيجاب مطلقا، والقبول إذا كان على معين كما سيأتي.

        الإيجاب لغة: الإلزام.

        والقبول: مأخوذ من قبلت العقد أقبله قبولا، بالفتح، وحكي بالضم، يقال: قبلت القول أي: صدقته، وقبلت الهدية أي: أخذتها.

        وفي الاصطلاح: عند جمهور أهل العلم: الإيجاب ما صدر من المالك (الواقف ) .

        والقبول: ما صدر من متملك المنفعة الموقوف عليه. [ ص: 227 ]

        والألفاظ التي تستعمل في الصيغة - الإيجاب - قسمان:

        1 - ألفاظ صريحة في الوقف.

        2 - ألفاظ كنائية في الوقف.

        أولا: الألفاظ الصريحة في الوقف:

        وهي ما اشتهر استعمالها في معنى الوقف، فيصير وقفا بها من غير انضمام أمر زائد إليها.

        أو ما لا تحتمل إلا الوقف.

        وهي ثلاثة ألفاظ:

        1 - الوقف.

        2 - الحبس.

        3 - التسبيل.

        وهذا هو مذهب الشافعية، والحنابلة.

        قال الماوردي – رحمه الله - : « فأما الصريح فثلاثة ألفاظ: الوقف، والحبس، والتسبيل »، وقال ابن قدامة – رحمه الله -: « ألفاظ الوقف ستة، ثلاثة صريحة... فالصريحة: وقفت، وحبست، وسبلت ».

        وعند المالكية على الراجح، وبه قال بعض الشافعية، وبعض الحنابلة: أن الصريح: لفظ: الوقف، والتحبيس. [ ص: 228 ]

        وعند الحنفية: الصيغة لا تخلو من أمور:

        يشترط الحنفية على المعمول به لصحة الوقف أن يكون مؤبدا; بأن يكون آخره مشروطا صراحة أو دلالة لجهة بر لا تنقطع، غير أنهم يختلفون في اشتراط ذكر التأبيد، أو ما يقوم مقامه نصا في صيغة الوقف.

        فأبو يوسف - رحمه الله - لا يشترط ذكر التأبيد، وإنما يشترط خلو الصيغة عما ينافيه، وهو المعتمد.

        ومحمد - رحمه الله - : يشترط ذلك.

        وعلى هذا فإذا ذكر الواقف جهة بر دائمة كالفقراء انصرف إليها بالاتفاق.

        وإذا ذكر أناسا معينين وشرط انصراف الوقف بعدهم لجهة بر دائمة كالفقراء صح الوقف بالاتفاق.

        وإذا ذكر أناسا معينين ولم يذكر بعدهم جهة دائمة، فإن اقتصر على لفظ الوقف مع حصره بأشخاص بطل بالاتفاق، وإن ذكر مع لفظ الوقف التأبيد أو لفظ صدقة بأن قال: عقاري صدقة موقوفة على فلان وفلان، أو هو وقف على أولادي أبدا، صح الوقف مؤبدا عند أبي يوسف، وهو الأرجح عند فقهاء المذهب، وينصرف بعد انقراض المعين إلى الفقراء، ولم يصح عند محمد.

        وحجة الشافعية والحنابلة ما يأتي:

        1 - أما الوقف: فهو صريح بالعرف وكثرة الاستعمال، وانضم إلى ذلك عرف الشرع. [ ص: 229 ]

        2 - وأما الحبس، والتسبيل: فهما صريحان بالعرف الشرعي في قوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: «حبس الأصل، وسبل الثمرة ».

        وحجة القول الثاني:

        قال الحارثي: « والصحيح أنه - لفظ التسبيل - ليس صريحا »; 1 – لقوله صلى الله عليه وسلم: «حبس الأصل، وسبل الثمرة ».

        غاير بين معنى التحبيس والتسبيل، فامتنع كون أحدهما صريحا في الآخر.

        2 - أنه قد علم كون الوقف هو الإمساك في الرقبة عن أسباب التملكات، والتسبيل إطلاق التمليك، فكيف يكون صريحا في الوقف؟ » .

        ثانيا: الألفاظ الكنائية في الوقف:

        وهي ما كانت تحمل معنى الوقف ومعنى غيره، مثل:

        1 - تصدقت.

        2 - حرمت.

        3 - أبدت.

        قال ابن قدامة رحمه الله: « وأما الكناية فهي: تصدقت، وحرمت، وأبدت، فليست بصريحة » ثم قال: « فالصدقة تستعمل في الزكاة والهبات، والتحريم يستعمل في الظهار والأيمان، ويكون تحريما على نفسه وعلى غيره، والتأبيد يحتمل تأبيد التحريم، وتأبيد الوقف، ولم يثبت لهذه الألفاظ عرف الاستعمال فلا يحصل الوقف بمجردها...، فإن انضم إليها أحد ثلاثة أشياء حصل الوقف بها: [ ص: 230 ] أحدها: أن ينضم إليها لفظة أخرى من الألفاظ الخمسة، فيقول: صدقة موقوفة أو محبسة أو مسبلة أو محرمة أو مؤبدة، أو يقول: هذه محرمة موقوفة، أو محبسة أو مسبلة أو مؤبدة.

        والثاني: أن يصفها بصفات الوقف، فيقول: صدقة لا تباع، ولا توهب ولا تورث; لأن هذه القرينة تزيل الاشتراك.

        والثالث: أن ينوي الوقف، فيكون على ما نوى، إلا أن النية تجعله وقفا في الباطن دون الظاهر; لعدم الاطلاع على ما في الضمائر، فإن اعترف بما نواه لزم في الحكم; لظهوره، وإن قال: ما أردت الوقف، فيقبل قوله; لأنه أعلم بما نوى ».

        وقد جعل الماوردي رحمه الله ألفاظ الوقف ثلاثة أقسام:

        1 - قسم صريح في الوقف، وهو ألفاظ: الوقف، والحبس، والتسبيل.

        2 - قسم كناية في الوقف، وهو لفظة : الصدقة .

        3 - وقسم ثالث مختلف في كونه صريحا في الوقف أو كناية فيه، وهما لفظا: التحريم، والتأبيد.

        فالوجه الأول: أنهما كناية; وذلك لأنهما لم يرد لهما عرف في الشرع ولا في اللغة، فلم يصح الوقف بمجردهما كلفظة التصدق.

        الوجه الثاني: أنهما صريح; لأن التأبيد والتحريم في غير الأبضاع لا يكون إلا بالوقف، فحمل عليه. [ ص: 231 ]

        وعند المالكية: الألفاظ الصريحة: حبست، ووقفت، وما عداها لا ينعقد بها الوقف إلا إذا قارنها قيد.

        قال الخرشي: « يصح ويتأبد الوقف إذا قال: تصدقت على الفقراء والمساكين، أو على طلبة العلم، وما أشبه ذلك إذا قارنه قيد، كقوله: لا يباع ولا يوهب ».

        فإن لم يكن قيد كان هبة.

        وعند شيخ الإسلام رحمه الله: أن عقد الوقف ينعقد بما دل عليه العرف.

        قال شيخ الإسلام رحمه الله: « وذلك أن الله ذكر البيع والإجارة والعطية مطلقا في كتابه ليس لها حد في اللغة، ولا الشرع فيرجع فيها إلى العرف، والمقصود بالخطاب إفهام المعاني، فأي لفظ انعقد به مقصود العقد انعقد به، وعلى هذا قاعدة الناس إذا اشترى أحد لابنه أمة، وقال: خذها لك استمتع بها، ونحو ذلك كان ذلك تمليكا عندهم ».

        الأدلة:

        دليل الجمهور: أن هذه الألفاظ المعينة هي وردت في السنة والآثار - كالوقف، والحبس، والتسبيل، والصدقة - ، أو اقتضتها دلالة اللغة، فالتأبيد والتحريم دالان لغة على الدوام والاستمرار.

        وأما دليل شيخ الإسلام:

        1 - الأدلة الدالة على اشتراط رضا الواقف.

        وجه الدلالة: أنه رضي بإخراج ملكه لله مؤبدا على هذا الوجه. [ ص: 232 ]

        (40 ) 2 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق ابن أبي حازم، عن سهل بن سعد رضي الله عنه، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: « ...اذهب فقد ملكتها بما معك من القرآن ».

        فدل الحديث على أن النكاح ينعقد بغير لفظ الإنكاح أو التزويج، بل بما دل عليه العرف.

        (41 ) 3 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق ثابت وشعيب بن الحبحاب، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: « أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها ».

        وجه الدلالة كسابقه.

        * * *

        التالي السابق


        الخدمات العلمية