الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 244 ] المسألة الثانية: أن يكون الوقف على معين:

        وفيها أمران:

        الأمر الأول: اعتبار شرط القبول: إذا كان الوقف على آدمي معين، ففي اشتراط القبول قولان: القول الأول: عدم اشتراط القبول.

        وهذا قول عند الشافعية، وهو المذهب عند الحنابلة.

        القول الثاني: اشتراط القبول.

        وهو قول الحنفية، والمالكية، وهو الأصح عند الشافعية ووجه عند الحنابلة.

        الأدلة:

        أدلة القول الأول: (عدم الاشتراط ) :

        استدل القائلون بعدم اشتراط القبول في عقد الوقف إن كان على معين بالأدلة الآتية:

        1 - الأدلة الدالة على عدم جواز الرجوع في الوقف.

        وجه الدلالة: أن هذه الأدلة دلت على نفوذ الوقف، وهذا يقتضي عدم اشتراط القبول. [ ص: 245 ]

        2 - حديث أبي طلحة حين وقف أرضه ببيرحاء.

        قال ابن حجر: « وفي قصة أبي طلحة من الفوائد: أن الوقف لا يحتاج في انعقاده إلى الموقوف عليه ».

        3 - الآثار السابقة عن الصحابة رضي الله عنهم إذ لم يرد فيها قبول الموقوف عليهم.

        4 - قياس الوقف على العتق بجامع أنهما تصرفان يزول بهما الملك، وإذا وردا على عين حرم بيعها وهبتها وإرثها، والعتق تصرف لا يفتقر إلى قبول فكذلك الوقف.

        5 - أن الوقف إزالة ملك عن الرقبة والمنفعة على وجه التقرب إلى الله تعالى، وإذا كانت هذه حقيقة الوقف، فإلحاقه بالقرب التي لا يشترط فيها قبول أولى من إلحاقه بالعقود.

        6 - أن القبول إذا لم يشترط في الوقف على غير معين، فكذلك لا يشترط في الوقف على معين; لأنه أحد نوعي الوقف.

        7 - أن الوقف فيه حق الله تعالى، والموقوف عليه إنما يملك منفعة المال لا رقبته.

        8 - أن الوقف لا يختص بالموقوف عليه، بل يتعلق به حتى من يأتي من [ ص: 246 ] البطون في المستقبل، فيكون الوقف على جميعهم إلا أنه مرتب، فصار بمنزلة الوقف على الفقراء الذي لا يبطل برد واحد منهم، ولا يتوقف على قبوله.

        9 - أنه لا يلزم من عدم اشتراط القبول دخول العين أو المنفعة في ملك الموقوف عليه قهرا، وإنما تدخل في ملكه بقبوله، فإن لم يقبل بطل في حقه وانتقل إلى من بعده.

        أدلة القول الثاني: (اشتراط القبول ) :

        استدل القائلون باشتراط القبول في عقد الوقف إن كان على معين بالأدلة الآتية:

        1 - قياس الوقف على الهبة، والوصية بجامع أنها تبرعات لآدمي معين، والهبة والوصية عقدان يفتقران إلى قبول، فكذلك الوقف.

        ونوقش: بوجود الفارق بين الهبة والوصية، وبين الوقف.

        ووجه الفرق: أن الوقف لا يختص بالمعين، بل يتعلق به حتى من يأتي من البطون في المستقبل، فيكون الوقف على جميعهم، إلا أنه مرتب، فصار بمنزلة الوقف على الفقراء الذي لا يبطل برد واحد منهم ولا يقف على قبوله، والهبة والوصية لمعين بخلافه.

        2 - أن دخول عين أو منفعة في ملك شخص قهرا بغير الإرث لا يصح.

        ونوقش من وجهين:

        الوجه الأول: عدم التسليم بكون الإرث هو الطريق الوحيد لدخول العين [ ص: 247 ] أو المنفعة قهرا في الملك، فمن العلماء من قال: إن اللقطة تدخل في ملك الملتقط بعد التعريف قهرا.

        الوجه الثاني: أنه لا يلزم من عدم اشتراط القبول لصحة الوقف على معين دخول العين أو المنفعة في ملكه قهرا، فإن قبل دخلت في ملكه، وإلا انتقل إلى من بعده، وهذا يدل على أن عقد الوقف على معين يصح، ولو لم يقبل الموقوف عليه.

        سبب الخلاف: يرجع إلى الخلاف في ملكية الوقف على معين هل هو للموقف عليه، أو باق على ملك الواقف، أو ملك لله تعالى؟ على ثلاثة أقوال:

        فإن قيل بانتقال الملك إلى الموقف عليه، قيل باشتراط القبول، وإن قيل بعدم انتقال الملك إلى الموقوف عليه لم يشترط القبول.

        ولم يرتض الزركشي من الحنابلة هذا السبب معللا أنه لا نزاع بين الأصحاب أن انتقال الملك إلى الموقوف عليه هو المذهب، مع أن الخلاف قائم بينهم في اشتراط القبول.

        ورجح الزركشي أن سبب الخلاف تردد معنى الوقف بين التمليك والتحرير، فمن قال: إنه إلى التمليك أقرب اشترط له القبول كالهبة.

        ومن قال: إنه إلى التحرير أقرب لم يشترط له قبولا كالعتق.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - عدم اشتراط قبول الموقوف عليه; لقوة دليل هذا القول، ولأن الوقف قربة الأصل أن يكثر منه، ولا يمنع منه إلا لدليل.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية