الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المطلب الثاني: تعريف الوقف في الاصطلاح

        اختلفت عبارات الفقهاء في تعريفهم للوقف اصطلاحا، وذلك تبعا لاختلافهم في شروط الوقف، وفي لزوم الوقف وعدم لزومه، ومصير العين الموقوفة بعد الوقف، ولاختلاف نظرتهم للتعاريف، فمنهم من يعرف على طريقة المناطقة والمتكلمين، ومنهم من يعرف على طريقة الفقهاء، ولكل منهم مشارب وموارد، وهذه طائفة من هذه التعريفات.

        التعريف الأول:

        هو تحبيس مالك مطلق التصرف ماله المنتفع به، مع بقاء عينه بقطع تصرف الواقف وغيره في رقبته، يصرف ريعه إلى جهة بر تقربا إلى الله تعالى.

        وبه قال الشافعية، والحنابلة، على أن بعضهم يترك بعض القيود للعلم بها، ولهذا عرفه بعض أصحاب هذا القول كابن قدامة وغيره بقوله: « تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة ». [ ص: 56 ] قال في الإنصاف: « أراد من حد بهذا الحد مع شروط الوقف المعتبرة، وأدخل غيرهم الشروط في الحد.

        شرح التعريف:

        قولهم: « تحبيس مالك »: سواء بنفسه، أو نائبه، والتحبيس ضد الإطلاق، فالحبس: المنع، وهذا اللفظ يتضمن حابسا - وهو الواقف - وصيغة.

        والحبس: اسم جنس يشمل كل حبس كالرهن والحجر، والمراد منع تملك العين بأي سبب من أسباب التمليكات.

        قولهم: « مطلق التصرف »: من له مطلق التصرف هو البالغ، العاقل، الحر، الرشيد.

        وهذا القيد لم يذكره الشافعية في تعريفاتهم للعلم به، ولاشتراطه لكل تصرف يرتب عليه الشارع أثرا شرعيا، ومعلوم أن من الانتقادات التي تورد على التعاريف ذكر الشروط في التعريف; لأنها ليست مما يصح إدخاله في الحدود كما هو معلوم، ولهذا جاءت عبارة النووي: « هو تحبيس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع تصرف الواقف وغيره في جهة تقربا إلى الله تعالى ».

        وقولهم: « تحبيس » لفظ التحبيس من الألفاظ الصريحة في الوقف، بل هو الوارد في الحديث النبوي في حديث خيبر العمري ، وفي الإنصاف:

        « وقفت وحبست صريح في الوقف بلا نزاع ». [ ص: 57 ]

        قولهم: « ماله »: أي: الشرعي، فخرج ما ليس مالا شرعيا كالمحرم، وما كان مختصا ككلب الصيد، ولهذا جاء في مطالب أولي النهى: « وعلم منه: أنه لا يصح الوقف من نحو مكاتب، ولا سفيه، ولا وقف نحو الكلب والخمر » وهذا قيد خالف فيه بعض الحنابلة، فأدخلوا فيه ما هو أوسع من ذلك بكثير.

        ففي الإنصاف: « وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: وأقرب الحدود في الوقف: أنه كل عين تجوز عاريتها - كما سيأتي - فأدخل في حده أشياء كثيرة لا يجوز وقفها عند الإمام أحمد -رحمه الله- والأصحاب، فظاهر عبارة الشيخ رحمه الله: تشمل حتى ما كان مختصا لا يجوز بيعه »، وسيأتي.

        قولهم: « المنتفع به »: أي: سواء كان الانتفاع به في الحال، أم لا، كعبد صغير، وخرج بذلك: ما لا يمكن الانتفاع به نحو: الحمار الزمن الذي لا يرجى برؤه.

        وقولهم: « المنتفع به »: أي: نفعا مباحا مقصودا.

        قولهم: « مع بقاء عينه »: أي: ولو مدة قصيرة أقلها زمن يقابل بأجرة.

        وخرج به: ما لا ينتفع به إلا بذهابه، كشمعة للوقود، وريحان مقطوع للشم، وطعام للأكل، فلا يصح وقف شيء من ذلك; لأنه لا يمكن الانتفاع به إلا مع ذهاب عينه.

        وغني عن الذكر أن عبارة شيخ الإسلام -رحمه الله- السابقة قد ألغت اعتبار هذا القيد، وذلك أن عارية ما ينتفع به بذهاب عينه جائزة.

        قولهم: « يقطع تصرف الواقف وغيره في رقبته »: متعلق بتحبيس على أنه [ ص: 58 ] تبيين له، أي: إمساك المال عن أسباب التملكات بقطع تصرف واقفه وغيره في رقبته بشيء من التصرفات.

        قولهم: « يصرف ريعه »: أي: غلة المال وثمرته ونحوها، بسبب تحبيسه.

        قولهم: « إلى جهة بر »: هذا معنى قولهم « وتسبيل المنفعة » أي: إطلاق فوائد العين الموقوفة من غلة وثمرة، وغيرها للجهة المعينة.

        والمراد بجهة البر: ما عدا الحرام، ولذلك عبر بعض الفقهاء كالشربيني وغيره بقولهم: « على مصرف مباح » فيخرج به المصرف الحرام، وهذه العبارة أسلم من حيث الشمول وعدم الحاجة إلى توضيح، وزاد بعضهم كلمة « موجود »، فقال: « على مصرف مباح موجود »، واشتراط كونه موجودا من المسائل الخلافية، ولهذا ذكر بعضهم: أن الأولى حذف كلمة « موجود » ليتأتى التعريف على كلا القولين.

        قولهم: « تقربا إلى الله تعالى »: أي: لأجل التقرب إلى الله تعالى، وإن لم يظهر فيه قصد القربة كالوقف على الأغنياء ترددا، أو على أولاده خشية [ ص: 59 ] بيعه بعد موته وإتلاف ثمنه من غير أن يخطر القربة بباله، بل قد يخطر بباله القصد المحرم كأن يستدين حتى يستغرق الدين ماله، وهو ممن يصح وقفه فيخشى أن يحجر عليه ويباع ماله في الدين فيقفه ليفوت على رب الدين بيعه لقضاء الدين، ويكون وقفا لازما لكونه قبل الحجر عليه مطلق التصرف في ماله لكنه آثم بذلك، وقد يقف على ما لا يقع غالبا إلا قربة كالمساكين والمساجد، قاصدا بذلك الرياء، فإنه يلزم ولا يثاب عليه; لأنه لم يبتغ به وجه الله تعالى، فهذا القيد لحصول الأجر وليس للزوم، لذلك فالفقهاء نصوا على أنه يلزم بمجرد اللفظ الصريح دون اعتبار لقصد المحبس، وأجلى من ذلك أن الكثير من الفقهاء قالوا فيمن أوقف على جهة محرمة لزم الوقف وإن لم يصرف في نفس الجهة التي نص عليها الواقف.

        واعترض عليه: أن قوله: « يقطع تصرف الواقف » تكرار مع قوله: « تحبيس ».

        التالي السابق


        الخدمات العلمية